ختان النيل

تَتَابع الأحداث الكبرى في مصر تجعل الكاتب في حيرة ماذا يذكر وماذا يدع؟!

لكن خيط الفساد والاستبداد يَنْظم تلك الكوارث في عِقد واحد، لأن الفساد المالي والاستبداد السياسي صنوانان لا يفترقان، وتستطيع أن تجعل كل واحد منهما مقدمة للآخر أو نتيجة له.

بعد أيام قليلة من حادث قطار سوهاج الذي راح ضحيته عشرات القتلى والجرحى دون أدنى مساءلة للقادة والمسؤولين الذين يعتبرون حوادث السكة الحديد من أسباب الوفاة المتكررة في مصر، ودون مراعاة لمشاعر أهل الضحايا عمت المحروسة مظاهر البهجة والاحتفال بنقل الفراعنة، وإقامة متحف جديد للمومياوات الملكية، وصرح وزير السياحة والآثار خالد العناني أن تكلفة إقامة المتحف الكبير بلغت 15 مليار جنيه، ومتحف الحضارة 2 مليار جنيه “وشوية ميات ومتينات” حتى أصبح الإجمالي 20 مليار حسب تعييره، كما أكد أن هذا الإنفاق السخي خرج من ميزانية الدولة بأمر مباشر من السيسي، لأن عوائد السياحة شبه متوقفة من عام 2011، وعلق على هذه التكلفة الباهظة رجل الآثار الشهير والوزير السابق زاهي حواس بأن هذه التكلفة لا يمكن أن تعوض في 500 سنة!

لكنه الحرص على “أخذ اللقطة” والتغطية على الفشل في كل صعيد وليس فقط في قطار الصعيد، وحتى لو اعتبرنا الأمر تنشيطا فعليا للسياحة وليس فيها أي تقاطع مع السياسة، فعلى أي سياحة يتحدثون في ظل كورونا التي أعادت موجتها الثانية أغلب البلاد إلى الإغلاق بل وحظر التجول؟!

واختفى فجأة شعار “أجيب منيين واحنا فقرا أوي” الذي يرفع عند الحديث عن بناء المدارس والمستشفيات أو تطوير السكة الحديد، وظهرت خزائن قارون للإنفاق بسخاء على نقل الفرعون الميت وتلميع الفرعون الحي!

ليت النظام المصري تعامل مع عويس الراوي وأسرته كما يتعامل مع آبي أحمد وجماعته

والمتابع لتفرغ الدولة بكل مقدراتها ومؤسساتها للحفل الفرعوني الكبير، يشعر وكأن البلد لا يعاني من مشكلات خانقة جعلت منه شبه دولة حسب تعبير رأس النظام، وأُخِّر عن عمد موضوع سد أثيوبيا ومشروعها للتحكم في مياه النيل، الذي يتعامل معه النظام المصري بأريحية غير مبررة وحلم غير مفسر، وليته تعامل مع التعدي على نهر النيل بنفس التهديد والوعيد الذي استخدم مع التعدي على الأرض الزراعية والمباني المخالفة، التي وصلت درجتها إلى استخدام لفظ الإبادة واستدعاء الجيش لتنفيذ المهمة.

ليت النظام المصري تعامل مع عويس الراوي وأسرته كما يتعامل مع آبي أحمد وجماعته، لكنه كما قال القائل:

أَسَدٌ عَليَّ وفي الحروبِ نَعَامَةٌ

فَتْخَاءُ تَنفِرُ من صَفيرِ الصافِرِ

وتكملة لعبثية المشهد وظلاميته انعقد البرلمان المصري واجتمعت لجانه المتخصصة، فقلنا لعلهم استشعروا المسؤولية وأحدق بهم الخطر، أو أن النظام سيستخدمهم هذه المرة للخروج من ورطة التوقيع على اتفاقية المبادئ التي وقعها السيسي مخالفا لآراء كل المختصين المصريين، وهي التي أضاعت حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وأعطت الغطاء القانوني لإثيوبيا في فعل ما تريد، ولذا تتبجح في رفض جهود الوساطة بكبر، وتتعامل مع الملف بمنتهى الاستخفاف والغطرسة.

النيل شريان حياة المصريين، والقضية لا تحتمل ترف المساجلات وتصفية الحسابات

وكما يقول المصريون “الخيبة ليها ناسها” تمخَّض البرلمان وولد سقطا، وخرج على الناس بقانون تجريم ختان الإناث وتغليظ عقوبة فاعله، وليتهم تعرضوا لحكم “ختان النيل” الذي تقوم به إثيوبيا على الطريقة الفرعونية القديمة والتي يعرفها أهل السودان أكثر من غيرهم، وعلى ذكر السودان فمع أن حجم الضرر الواقع عليها أقل من مصر، فإن لهجتهم أقوى وتصعيدهم أعلى، حتى جملة التهديد والتصعيد التي قالها السيسي بأن “المياه خط أحمر وكل الوسائل متاحة” عاد بعدها بيومين في ثياب الواعظين وحال المتصوفين مذكرًا المصريين بحرب اليمن وهزيمة 1967، وكأن الشعب هو الذي اتخذ هذه القرارات العشوائية، أو المسؤول عن الهزيمة الحربية، التي تسببت فيها قيادات عسكرية غير مؤهلة للقيادة عسكريا أو سياسيا، ولو أراد السيسي رفع المعنويات لأكمل تسلسل الأحداث حتى حرب العبور في 1973 أو استدعى من التاريخ أنه يتحدث في شهر أبريل ذكرى أيام معركة “فارسكور” التي هزم فيها المصريون الحملة الصليبية السابعة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع عام 1250 وأسروه، لكنها دعوة صريحة للاستسلام، وتظهر فيها شبهة التواطؤ لأنه قبض ثمن التوقيع.

النيل شريان حياة المصريين، والقضية لا تحتمل ترف المساجلات وتصفية الحسابات، لأنها فعلا قضية مستقبل وطن، وليست شعارا لحزب حصر أجندته في قانون تجريم الختان -بالمخالفة للأحكام الثابتة في كتب الفقه وآراء العلماء سلفا وخلفا- ونذكر بأن الجيوش مهمتها حماية الحدود وتأمين الثغور ورد العدوان، وليس إدارة النوادي وصالات الأفراح، والانشغال بالتجهيز لحلويات العيد ومسلسلات رمضان.

المصدر : الجزيرة مباشر