حكايات رمضانية: البخلاء!

لا شيء أكثر متعة، من حوار جاد مع بخيل، حول “كوباية شاي”، أو فنجان قهوة.

في صدر شبابي استهواني هذا الحوار مع البخلاء، عندما ندخل هذا الحوار، وكأننا في مفاوضات طابا، أو سد النهضة، حيث الصرامة المتناهية، في موضوع يبدو تافهاً لدى البعض، لكن البخيل يكون في كامل احتشاده إذا وجد أمامه من يتعامل مع الموقف بجدية!

عرفت بخلاء كثيرين، لدرجة أنه استقر في وجداني لفترة طويلة أن البخل مرتبط بالجيل السابق لنا، لولا أنني تعرفت على شخصيات من هذا الجيل كانت غاية في الكرم، حد الإسراف، فهل كانت استثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها؟!

لقد دخلت في حوارات “كوباية الشاي”، مع اثنين: أحدهما من المثقفين والثاني لا يحسب عليهم لكن “المفاوضات السرية” معهما، تكشف جانباً مهماً يحتاج إلى تفسير في نظرة القوم للأشياء؛ فقد كان لرئيس التحرير شقيق سبق له العمل في احدى الجهات السيادية وخرج على التقاعد، وكان وارثاً، مكنه الورث من أن  يمتلك العديد من الشقق في الأماكن الراقية أو شبه الراقية بالقاهرة، أي أنه من أصحاب الأملاك، وكان أحياناً يزورنا في مقر الجريدة، ولأنه ربما اعتاد في عمله السابق على الاستيقاظ مبكراً، فقد كان حضوره مبكراً، وينتظرني حتى أحضر، ليدخل علي مكتبي ويدير معي حواراً طويلاً، أجاريه فيه، وبمفردات لا تتغير!

يبدأ بطلبه مني أن أعزمه على الشاي، ويكون ردي أنني لست اغنى منه لكي أعزمه، فهو من أصحاب الأملاك، ومن المؤكد أن معاشه كبير، وأولاده كبروا ويعملون وليسوا بحاجة إلى إنفاقه، ولا ينسى والحوار على هذا المستوى أن يتلو “قل أعوذ برب الفلق” قبل أن يتنازل عن طلبه، ليطلب أن أعزمه اليوم، على أن يرد لي ذلك في الغد، وفي جدية تستوجبها “المفاوضات الثنائية” أقترح أن تكون البداية منه، لكي تنتهي المفاوضات في كل مرة، إلى أن يحاسب كل منا لنفسه!

ذات مرة سألته عن قيمة الأموال التي يحوزها إذا لم يمتع بها نفسه؟ فكشف عن فلسفة عميقة بقوله: الإنفاق ليس الطريق الوحيد للمتعة، فهذا تصرف الفقراء من أمثالكم. إنما هناك متعة لا تدانيها متعة أخرى عندما يرى أمواله مكدسة فوق بعضها تزيد ولا تنقص. لا شك إنها وجهة نظر!

كان قريباً من السادات في سنوات حكمه الأخيرة، والذي رشحه ليكون وزيراً للإعلام لولا حادث المنصة

وعلى ذات المستوى، كنت قد دخلت مفاوضات أخرى على “كوباية شاي”، مع الدكتور محمد إسماعيل علي، أستاذ القانون الدولي، والكاتب في “الأهرام”، وكان السادات قد تعرف عليه من القراءة له في “بريد الأهرام” فاستدعاه للقاء وعينه مستشاراً وكاتباً، وباغتيال السادات جرت في النهر مياهاً كثيرة، وقال له إبراهيم نافع إنهم لم يحرروا له عقداً بالتعيين، وبالتالي هو ليس على قوة المؤسسة، إلى أن تذكره مبارك فالتقاه وأعاده مرة أخرى للأهرام، ويبدو لسبب نفسي ما ، لم يكن يتحمس للكتابة في السياسة فأهدر قدراته الهائلة في الكتابة في الحب!

وقد كان قريباً من السادات في سنوات حكمه الأخيرة، والذي رشحه ليكون وزيراً للإعلام لولا حادث المنصة، ولأنه كان قريباً من كتاب كبار مثل أنيس منصور وغيره لأنه بدأ حياته صحفيا متدرباً ثم انتقل للسلك الأكاديمي، فقد كانت تستهويني حواديت هذه المرحلة وهو رجل حكاء، طلق اللسان، لا يقلل من هذا بخله والمفاوضات المطولة التي نقطعها حول “كوباية الشاي”، يخوضها كل منا بجدية صارمة!

ذات صباح كنت عنده في مكتبه للاستشارات القانونية بناء على موعد سابق، وكانت محامية تعمل بالمكتب تجلس مع عدد من زميلاتها، لا أعرف إن كن زميلات دراسة أم زميلات مهنة.

بينما كنت أصافحه، ولم ينته من الترحيب بي، أخبرني بعدم وجود بن بالمكتب، وبالتالي فالمشروب الوحيد هو الشاي، وطلبت “كوباية شاي”، وجلست، لكنه قال إن الجلسة ستطول وإذا شربت “شاي” الآن، فسأحتاج إلى قدح أخر، وإنه يقترح علىّ تأجيل الطلب لمنتصف الجلسة، فيكون كوباً واحداً والسلام.. هكذا!

كان يقول هذا وهو في قمة الجدية، ولم تكن تنقصني الجدية أيضاً وأنا أفاوضه، فاقترحت بعد تفكير عميق، أن أشرب الآن، ولا مانع من قدح آخر إذا طال اللقاء!

وبدا كما لو كان يكلم نفسه: “كوباية الآن.. وكوباية بعد شوية” ثم يمط شفتيه في دهشة!، والحال كذلك فقد اعتبرته حواراً لا يشغلني ولست طرفاً فيه. قبل أن يعقد أمره: لا بأس.. الآن وبعد شوية. ويستدعي السكرتيرة: شاي للأستاذ سليم. وفي حزم شديد، حتى لا تخطئ وتصنع قدحين، لي وله! قبل أن يستدرك ويطلب منها أن تنتظر، وندخل في جانب أخر من المباحثات:

“إذا فعلت الآن فسوف تكون مضطرة لأن تفعل لضيفات فلانة بالخارج فلننتظر حتى يغادرن”. لكني قلت له في صرامة تليق بمستوى الحوار الدائر: هذا أمر لا يعنيني في شيء.. أريد “شاي” الآن وحالا!

وقد قابل هذا الحسم مني بالرضوخ لطلبي، قال للسكرتيرة التي لا تزال واقفة تنتظر ما ستسفر عنه المفاوضات:

“شاي للأستاذ سليم”، قبل أن يلتفت إليّ طالباً أن أؤوب معه هذه المرة: “البنات أصلاً لا يشربن الشاي”؟!.. أجبت في تهجم: ليس موضوعي!

وظلت المفاوضات محتدمة لأيام، إلى أن تم اتفاق الطرفين على عرض القضية على القاضي العشماوي للفصل فيها

وقد كان توفيق الحكيم أشهر بخيل في الوسط الثقافي والصحفي، لكن هناك من كانوا يشككون في ذلك، ويقولون إنه من أشاع هذا عن نفسه، وكانت تعجبه الدعاية ببخله، حتى لا يتورط في طلبات الضيوف والأصدقاء، لكنه لم يكن على هذه الدرجة من البخل التي تتردد عنه!

وكان الحكيم ينظر للمستشار سعيد العشماوي على أنه ابنه، ولأن بعض مؤلفاتهما ترجمت للغة الفرنسية، فقد كان يقضيان شهراً في باريس في كل صيف، للسياحة ولحساب الناشر، فلما سألت العشماوي عن الصحة في كل ما أثير حول بخل الحكيم، هل كذلك فعلاً أم مجرد سمعة؟ أكد أنه بخيل فعلا وليس مجرد ادعاء، وروى واقعة نزاع مهمة بين الحكيم ومن يستضيفه في باريس طلبا منه هو بصفته قاض التدخل للفصل فيه، وعنوانه بخل الضيف والمضيف!

قال العشماوي إنه كان يقضي إجازته في “لوكاندة” هناك، وفي نهايتها فإن الناشر يحاسب على الإقامة فيه، ثم يدفع له الفرق، بينما يقيم الحكيم في شقة الكاتب المصري حسين فوزي الشهير بالسندباد، الذي كان يعيش وزوجته الأجنبية في شقة من حجرة واحدة، وكان الحكيم ينام في الصالة، واضطروا لشراء “كنبة” له، ودار صراع على مستوى القمة!

الحكيم، الذي رفض الأخذ باقتراح العشماوي والإقامة في “لوكاندة” مثله، على حساب ريع كتبه، ويصر على العودة بالمبلغ الذي يحصل عليه كاملاً من الناشر، يرفض دفع ثمن “الكنبة” يقول إنه بعد شهر الإجازة فانه يتركها في شقة حسين فوزي ولا يحملها معه للقاهرة.. فهي “كنبته” وفي شقته.. وهو دفع وجيه!

بينما حسين فوزي يقول إنه وزوجته ليسا في حاجة لهذه “الكنبة” ولن يستخدماها لأنهما لا يستضيفان ضيوفاً سوى الحكيم في كل عام.. وهو دفع وجيه أيضاً.

وظلت المفاوضات محتدمة لأيام، إلى أن تم اتفاق الطرفين على عرض القضية على القاضي العشماوي للفصل فيها، والذي انتهى حكمه إلى أن يشتركا في دفع ثمنها بالمناصفة.

كان العشماوي يضحك بشدة وهو يروي هذه الواقعة، فيهتز لهذا كل جسمه، ويضرب كفاً بكف، في دهشة من سلوك هذين البخيلين، ولم يوقفه عن هذا أنني قلت له: من يسمعك يقول إنك حاتم الطائي!

لم تنته الحكاية بعد.

المصدر : الجزيرة مباشر