القائد المنتظر

ارتبطت التغييرات الكبرى في التاريخ بظهور القيادة التي تدعو إلى ذلك وتجعله هدفا وتسعى للوصول إليه ولا يتصور التغيير عقلا ولا يحدث فعلا في ظل عدم وجود قيادة، ولعل أبرز النماذج على ذلك بعثة الرسل عليهم السلام كلما جنحت سفينة البشرية لردها إلى مسارها الصحيح، أو على الأقل تبيين خطورة الانحراف والتنبيه عليه.

وظهور القيادة المناسبة أولى بشريات النصر لذا وجدنا بني إسرائيل في ماضيهم القديم يعرفون ذلك ويؤمنون به ويسعون إلى اكتشافه

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)

لكن النفس البشرية لا تتخلى عن حظها بسهولة وظاهرة الحسد من الأمراض القديمة في الأمم والشعوب، فلما استجاب الله لهم انتقلوا إلى تحديد مواصفات القيادة المطلوبة !

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

ولو كان سرطان الجامية والمدخلية موجودا في حينها لقيل كيف لا يسمع ويطيع، وكيف يعترض على حكم ولي الأمر ؟!

ولعل من أبرز صفات القيادة الناجحة والإدارة الرشيدة التنقيب عن الخليفة الذي سيحمل الراية، واكتشاف المواهب التي ستتحمل مسؤولية إكمال الطريق، ويخصهم بمزيد رعاية وعناية، ويُحملهم جزءًا من المسؤولية في وجوده، وينمي مواهبهم على عينه، ويعطيهم خلاصة تجربته، وهذا الذي حدث في جيش بني إسرائيل: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ )

وهنا برز داوود الشاب الذي تولى القيادة بعد ذلك، وجمع الله له بين الحكم والنبوة فكان نبيا ملكا، وبدوره أفسح المجال للقيادة القادمة المتمثلة في ابنه سليمان بن داوود الذي كان يحضر معه مجلس الحكم والقضاء

(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا…)

ومع ما بين سليمان وأبيه من سلطان النبوة والأبوة، وتبعية الملك والحكم، إلا أنه أعلن عن رأيه المخالف لحكم أبيه، الذي لم يمنعه شيء من تحويل القضية إلى ولده والنزول على حكمه، ولو كان سرطان الجامية والمدخلية موجودا في حينها لقيل كيف لا يسمع ويطيع، وكيف يعترض على حكم ولي الأمر ؟!

والمطالع لسيرة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم سيجد من ذلك الشيء الكثير، ومن أبرزه وأشهره أن رسول اللهﷺ بعدما فتح الله له مكة المكرمة، استخلف عليها عتاب بن أسيد الأموي وكان قد تجاوز العشرين بقليل، وعين أسامة بن زيد قائدا لجيش المسلمين الذي فيه أبوبكر وعمر وهو دون العشرين، وكذلك فعل الشيخان عند جمع القرآن الكريم إذ انتدبا لهذه العمل الضخم العالم الشاب زيد ثابت.

وعند سقوط الخلافة الإسلامية بدأ الاستاذ الشاب حسن البنا يعرض مشروعه لاستعادتها على كبار علماء عصره، فمنهم من اكتفى بالإعجاب بالفكرة، وبعضهم خاف من تبعاتها

في كل حقب الدهر ومراحل التاريخ إذا أردت أن تنظر إلى أثر العالم أو نتيجة المربي وتحصل على النتيجة من أقصر طريق فانظر إلى خلفه وتلاميذه من بعده، فمثلا نور الدين محمود زنكي حمل راية التحرير من بعده تلميذه صلاح الدين، وشيخ الإسلام ابن تيمية من كبرى حسناته تلميذه الإمام ابن القيم،

وعند سقوط الخلافة الإسلامية بدأ الاستاذ الشاب حسن البنا يعرض مشروعه لاستعادتها على كبار علماء عصره، فمنهم من اكتفى بالإعجاب بالفكرة، وبعضهم خاف من تبعاتها.

وعندما عرضها على العلامة الكبير السيد محمد رشيد رضا “تفرس فيه القيادة القادمة والإمامة المبكرة وأعجب به وشجعه، ولو استعرضنا بعض جوانب العبقرية في شخصية الإمام البنا سنجد في مقدمتها تلك الروح التي أودعها نفوس تلاميذه، وحسن الفراسة في اختيار النجباء منهم، وتقديمهم وتهيئتهم للأدوار الكبرى، وصدق الحدس الذي لم يتخلف، فقد رأى أن الله جمع لتلميذه الأزهري الشاب محمد الغزالي بين الأدب والدعوة وبالفعل أصبح أديبها بلا منازع، كذلك رأى في تلميذه الأزهري الشيخ سيد سابق مشروع فقيه جديد، فندبه إلى كتابة فقه ميسر لا يلتزم بتقليد الأئمة وينهل من نفس معينهم، ووضع له خطة كتابة فقه السنة، ذلك السفر الذي قلما تخلو منه مكتبة من مكتبات المسلمين، وأصبح جارا لرياض الصالحين .

أما في واقعنا المعاصر فيُنظر إلى النابهين على أنهم مشاغبون، وإلى المتفوقين على أنهم متطلعون، لأن القيادة التي شاخت دون إنجاز حقيقي، وحولت الريادة إلى عمل وظيفي، تخشى من النجاح الذي سيفرض المقارنة لا محالة، ومن هنا يرون في نوابغ الجيل الثاني خطرا على مراكزهم ووظائفهم، وتبدأ سياسة إقصاء المخلصين وتقديم المنتفعين !

سنبقى ننتظر التغيير الذي لا يحدث إلا في وجود قيادة، عليها انتزاع حقها وتوحيد صفها، وعندها تكون قادرة على أداء دورها وإدارة معركتها.

المصدر : الجزيرة مباشر