أربع مآسٍ فمسخرة ومأتم

أتساءل كل يوم وقبل أن أخلد إلى نومي: هل الواقع في مصر تجاوز الإصلاح؟ وهل للصراخ جدوى؟ وهل تغير الكتابة شيئاً؟ هل للكلمة قيمة؟ ومتى ستساعدنا وتنصفنا القواميس فتقدم لنا أوصافا ومعاني جديدة تتناسب مع ما يحدث بحق الإنسان هناك؟ في أوقات كثيرة أشعر أن الواقع في مصر قد تجاوز بمسافات كل ما ذكرت.

فقدت الكلمات جدواها، فقد الصراخ تأثيره، فقد البوح والكشف والتعرية كل ما تعهدت به المعاني كمهام داخل قواميس لغتنا العربية، مرحلة ما بعد الوصف أو ما بعد الوحل بمعنى أدق، والوحل يطل علينا برأسه وعليه الكاب العسكري يسحقنا بلا رحمة يسحقنا مستمتعا بالقتل البارد، بالموت البطيء داخل السجون والمعتقلات، بالإخفاء القسري، بالإجبار على الفرار إلى المنافي، وما أدراكم ما المنافي؟ أشعر بالعجز التام، العجز الغارق في تفاصيلٍ نمضي إليها وهي على مزاج وهوى من يحكم، من يرسم لنا سير المعارك، من يستدركنا، من يجلس آخر الليل يحتسي مشروبه المسكر ويضحك على استخدامنا في كل ما يخطط له فقط من أجل الإلهاء. ولكن بؤس هذا الواقع لن يجعلني أيأس، لن أكف عن البوح والتعرية والكشف والفضح، حتى الرمق الأخير من حياتي، سأحكي لكم عن أربع مآس تصدرت المشهد في “المختطفة” مصر خلال الأسبوع المنصرم، تلاها مسخرة ومأتم.

وقال الأعصر في رسالته: “من للمنكسرين خلف الجدران؟ إن كنت مذنباً، فحاكموني، أما الحبس الاحتياطي المفتوح فهو لعنة

المآسي كاشفة وفاضحة لعشرات الألوف من الحالات المماثلة.

نبدأ من المأساة الأولى وبطلها “مصطفى الأعصر”:

وأنشر رسالته المسربة من داخل محبسه، والتي يقول فيها: “ألا تكفي مئات الأيام للنظر في أمري؟” مطالباً بمحاكمته حال كان مذنباً، بدلاً من الحبس الاحتياطي المفتوح الذي وصفه بأنه “لعنة”.

وقال الأعصر في رسالته: “من للمنكسرين خلف الجدران؟ إن كنت مذنباً، فحاكموني، أما الحبس الاحتياطي المفتوح فهو لعنة، لا أعرف لماذا أقبع هنا، خاصة مع انتفاء مبررات حبسي، فلا أنا خطر على الأمن القومي، ولا خطر على العبث بأدلة الاتهام، فجميعها لدى النيابة، ولا أنا إرهابي يحمل السلاح ويرتكب الجرائم ويروَّع الآمنين”.

وأضاف الأعصر: “‏‎ما أنا إلا صحفي شاب لدي طموح وأحلام ومستقبل، مارست عملي بضمير يقظ ومهنية وموضوعية مستمدة من ميثاق الشرف الصحفي، رفضت الغربة وبقيت في وطني بيد نظيفة، وكذلك صفحة جنائية بيضاء، لا مأخذ عليَّ ولا غبار، ثم فجأة دون سبب واضح توقفت حياتي عند الرابع من فبراير ٢٠١٨م، ولم تتحرك من حينها، ‏‎انتهت معي التحقيقات، ومن حينها وأنا بانتظار قرار (عادل) لا يأتي”.

وقد تجاوز الأعصر ٣ سنوات في الحبس الاحتياطي، منذ القبض عليه في فبراير ٢٠١٨م. ووجهت نيابة أمن الدولة للأعصر آنذاك اتهامات ببث ونشر أخبار كاذبة ومشاركة جماعة إرهابية، على ذمة القضية رقم ٦٢١ لسنة ٢٠١٨م أمن دولة. وبعد حبس عامين بسبب هذه القضية، قررت محكمة الجنايات إخلاء سبيله بتدابير احترازية، ولكنه القرار الذي لم يتم تنفيذه، وجرى تدويره على ذمة قضية جديدة حملت رقم ١٨٩٨ لسنة ٢٠١٩م حصراً أمن دولة، ومنذ وقتها وهو رهن الحبس على ذمتها.

إدارة السجن منعت دخول الأدوية للمعتقل قبل وفاته، بالرغم من معاناته من مرض السكري بالإضافة إلى وجود قرحة في المعدة

ونأتي للمأساة الثانية وبطلها – في جوار رب كريم – ضحيةً للقتل البطيء في السجون والمعتقلات المصرية، شأنه شأن مئات الضحايا في الفترة الأخيرة. وكانت صفحة “نحن نسجل” قد نشرت التفاصيل الآتية:

وفاة المعتقل “عبد القادر محمد العجمي” داخل سجن جمصة نتيجة الإهمال الطبي، في يوم ١١/٣/٢٠٢١م توفي المعتقل داخل سجن جمصة شديد الحراسة بمحافظة الدقهلية، نتيجة الإهمال الطبي المُتعمد.

وقالت منصة “نحن نسجل” الحقوقية: إن إدارة السجن منعت دخول الأدوية للمعتقل قبل وفاته، بالرغم من معاناته من مرض السكري بالإضافة إلى وجود قرحة في المعدة.

وكشفت المنصة، أن المعتقل الراحل، 49 عاماً، من محافظة دمياط، ويعمل مُعلماً للغة الإنجليزية. وأن “عبد القادر محمد العجمي”، هو الشهيد رقم 12 منذ بداية 2021.

أما بطلة آخر المآسي في مقالي، فهي المناضلة والناشطة السياسية “منى سيف”، والتي بثت فيديو على صفحتها توجه أسئلة كثيرة إلى النائب العام المصري (حمادة الصاوي) وتسأله: “انت فين؟”

أما المأساة الثالثة، فبطلتها “طبيبة السلام” التي كسر المتهمون باب شقتها عليها هي وضيفها، واتهموها بممارسة الرذيلة، وعليه قرروا الحكم عليها بالإعدام، وفوراً تم إلقاؤها من شرفة منزلها. مع العلم أن الضحية كانت ترتدي ملابسها كاملة وتجلس أمام الجميع في الشرفة مع صديقها.

الحادث كاشف لحالة التحلل والتفكك الضاربة في المجتمع “المستباح ومسلوب الحقوق”، وهي واقعة تؤكد أن الاستباحة التي تمارسها الدولة على الجماهير انتقلت إلى المجتمع، فالكل يستبيح الكل، والبقاء للأقوى. وهذا النموذج حدث قبل ذلك في دول كثيرة، انتقلت فيها الممارسات الإجرامية من النظام الحاكم إلى المجتمعات.

أما بطلة آخر المآسي في مقالي، فهي المناضلة والناشطة السياسية “منى سيف”، والتي بثت فيديو على صفحتها توجه أسئلة كثيرة إلى النائب العام المصري (حمادة الصاوي) وتسأله: “انت فين؟”، وهو الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع، ودفع العديد من المنظمات الحقوقية أذكر منها: مركز النديم، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، “كومتي فور جستس”، وغيرهم، لإصدار بيان كان هذا نصه:

“ونحن أيضا نسأل السيد المستشار النائب العام: حضرتك فين؟”

العدالة الجنائية

بيان صحفي

10 مارس 2021م

بالأمس، 9 مارس 2021م، قامت الناشطة منى سيف – شقيقة كل من علاء عبد الفتاح المحبوس احتياطياً في سجن شديد الحراسة 2، وسناء سيف المحبوسة احتياطياً في سجن القناطر – بنشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تتساءل فيه عن مآل البلاغات التي تقدمها الأسرة في مكتب النائب العام والتي لم تحصل على أي رد بشأنها من النائب العام المستشار حمادة الصاوي. وكان من بين تلك البلاغات بلاغ قدمه مكتب الأستاذ خالد علي موكلاً عن الأسرة لمكتب المستشار النائب العام بالتجمع الأول، حمل رقم 10579 بتاريخ 9 مارس 2021- عرائض المكتب الفني للنائب العام، بمضمون ما ذكره علاء سيف بجلسة تجديد حبسه يوم 1 مارس 2021 أمام غرفة المشورة للدائرة 3 إرهاب برئاسة المستشار محمد عبد الستار وبحضور جمع من المحامين، من أنه (يسمع أصوات تعذيب بالكهرباء في الزنازين المجاورة، وأنه يشعر بتهديد)، وكذلك بعض الانتهاكات الأخرى التي يتعرض لها من حرمانه من الحقوق التي كفلها لها قانون السجون ولائحته.

في مساء نفس اليوم نشرت الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية على فيسبوك منشوراً أنه :”لا صحة للادعاءات التي نشرتها المدعوة/ منى سيف، شقيقة المتهم المحبوس/ علاء عبد الفتاح سيف ، حول وجود تعذيب داخل السجون باستخدام الكهرباء، وجاري اتخاذ الإجراءات القانونية حيال تلك الادعاءات”.

لم تنتظر وزارة الداخلية أن يستجيب مكتب النائب العام لمطلب مواطنة بالتحقيق فيما شهد به شقيقها أمام المحكمة أو ما قدمته الأسرة من بلاغات سابقة وبادرت بالتهديد باتخاذ الإجراءات القانونية ضد منى سيف.

لن ندخل في تفاصيل ما إذا كان هناك تعذيب في السجون، فأقوال المحتجزين أمام النيابة أثناء التحقيقات وشهاداتهم عن طريق أسرهم أو بعد خروجهم من السجن تحمل رواياتهم التي عايشوها بأنفسهم وفي بعض الأحوال تحمل أجسادهم بقايا علامات أو آثار المعاملة التي تعرض لها بعضهم في السجون، والدستور المصري يقرر أن جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم وبالتالي فإن ما تصفه الداخلية بأنه “ادعاءات” سوف يظل قائماً إلى أن يُبت فيه في يوم من الأيام.

لكننا في هذا البيان ننضم إلى السؤال الذي طرحته منى سيف: “أين النائب العام من كل هذه البلاغات؟”، بما فيها بلاغ أسرة الراحل أحمد سيف وبما فيها بلاغ الاعتداء على الأسرة واختطاف سناء سيف من أمام مكتبه الذي ذهبت إليه لتقديم شكوى بشأن ما تعرضت له من اعتداء جسدي ترك آثاره على جسدها؟ وكيف تحولت سناء إلى متهمة بالاعتداء على ضباط السجن في انتظار الحكم عليها الأسبوع القادم؟ وما معنى أن تبادر وزارة الداخلية إلى نشر ما أشرنا إليه أعلاه وهي في موضع الاتهام من البلاغ الذي قدمته الأسرة، فوضعت نفسها بذلك محل النيابة وقطعت الطريق أمام التحقيق وقررت دوناً عن النائب العام بأن لا صحة للادعاءات؟ وهل معنى ذلك أن الداخلية – وهي سلطة إنفاذ القانون والأحكام التي يصدرها القضاء – من بين سلطاتها أن تتجاوز سلطات التحقيق فتبت في الشكاوى وتتخذ القرار بشأنها بما في ذلك توجيه الاتهامات بدلا من النيابة؟

نحن أيضاً نسأل السيد المستشار النائب العام: أين يذهب أصحاب المظالم؟ ومن يرد على تظلماتهم؟ ولماذا الصمت إزاء تلك المظالم؟

وبهذا السؤال انتهى بيان المنظمات الحقوقية.

حان الآن وقت الكشف عن “المسخرة” التي تجسدت في بيان الخارجية المصرية للرد على البيان الصادر من مجلس حقوق الإنسان عن مصر

*وبعد كل ما سبق، وبعد أربع حالات كاشفة لحال حقوق الإنسان في مصر، والتي هي أمثلة من عشرات الألوف لحالات مماثلة، فهي “غيض من فيض”، قد حان الآن وقت الكشف عن “المسخرة” التي تجسدت في بيان الخارجية المصرية للرد على البيان الصادر من مجلس حقوق الإنسان عن مصر، والذي خرج بناء على الفضائح والانتهاكات والعصف بدولة القانون “ومأسسة الاستباحة” وبعد كل ذلك ردت الخارجية بما هو آت:

“اتصالاً بالبيان المشترك الذي أدلت به عدد من الدول اليوم ١٢ مارس الجاري في مجلس حقوق الإنسان، وتضمّن مزاعم وادعاءات حول أوضاع حقوق الإنسان فى مصر؛ أعربت وزارة الخارجية عن رفضها التام لما تضمنه ذلك البيان من أحاديث مُرسَلة تستند إلى معلومات غير دقيقة، مؤكدةً على شديد الاستغراب والاستهجان لعدم الاستعانة بما يتم توضيحه لهذه الدول من حقائق ومعلومات حول أوضاع حقوق الإنسان في مصر.

وتُشدد وزارة الخارجية على ضرورة المراجعة المدققة لمثل هذا الكلام المرفوض، مُطالِبةً هذه الدول بالتوقف عن توجيه اتهامات تعبّر فقط عن توجُّه سياسي غير محمود يتضمن مغالطات دون أسانيد. كما تؤكد على أنه من المرفوض أيضاً أن يتم الاستسهال من خلال الإدلاء بمثل ذلك البيان الذي لا يراعي الجهود المصرية الشاملة في مجال حقوق الإنسان فى كافة جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما تم تحقيقه على هذا الصعيد خلال الأعوام الماضية.

هذا، ومن المقرر أن تلقي مصر من خلال بعثتها في جنيف ببيان أمام مجلس حقوق الإنسان، والذي سيسلط الضوء على أوجُه القصور داخل تلك الدول صاحبة البيان المشترك، بما في ذلك الممارسات التي تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان. كما تُعيد وزارة الخارجية التأكيد مجدداً على أن مسألة حقوق الإنسان تنطوي على عملية تطوير دائم لم تبلغ فيها أي دولة حد الكمال، ولا توجد دولة بإمكانها تنصيب نفسها مقيّماً أو حكماً في هذا الشأن.

من يقرأ الرد الرسمي للنظام المصري سيدرك على الفور أن الدولة المصرية “القائمة” بنظام الحكم الحالي لديها إصرار عجيب للوصول إلى النهايات الحزينة، شأنها شأن كل الدول التي سبقتنا، وبأنه لن يتم أي إصلاح من أي نوع. تروس وجود هذه الدولة تعمل وفقط بتحويل القمع والبطش والقهر والقتل والتهجير، وكل ما هو متدني ومنحط، إلى طاقة تستمد منها وجودها، والمطالبة بالعمل عكس ذلك سيكون ضد بقاء المنظومة، بل ويؤدي إلى فنائها، وأنا لم أسمع او أقرأ في حياتي عن منظومة سعت من أجل “هندسة فنائها”، لكن التحلل والتفكك الذاتي قادم جراء “السرطنة” التي حدثت لتروس هذه الدولة من فرط مأساوية الاستخدام وبحكم سنن وقوانين الكون وعالم ما بعد الحداثة الذي نعيش فيه.

* وأما “المأتم”، فهو خروج رأس الدولة المصرية لكي يعلن لنا بعد كل هذا الظلم والقهر والتجبر والتسلط والسحق أن الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة بمثابة إعلان عن دولة جديدة وجمهورية ثانية، وفات عليه أبجدية هامة جداً، أن الدول تبنى ويتم إرساء قواعدها بالحرية والسلام والمساواة، فات عليه أن “العدل اساس الحكم”.

المصدر : الجزيرة مباشر