سر عداء السيسي للفلاحين

يتعرض الفلاحون المصريون لسياسات إفقار ممنهجة منذ استولى الجنرال السيسي على الحكم في منتصف 2014. تنوعت سياسات الإفقار بين حرمانهم من زراعة المحاصيل المربحة واستحداث قوانين لمعاقبة المخالفين بالغرامة والسجن، ورفع أسعار الأسمدة لأربعة أضعاف سعرها، وفرض أسعار بخسة للمحاصيل التي تشتريها الحكومة تؤدي إلى خسارة كبيرة بحقهم، وحرمانهم من التأمين الصحي، ثم ختمها بشن حملة عسكرية مسلحة على القرى لهدم وإبادة منازلهم بحجة أنها بنيت دون ترخيص. عداء الجنرال السيسي للفلاحين الطيبين، وسياسات إفقارهم حول 70% منهم إلى فقراء، ووراء سر نكشفه في هذا المقال.

بعد سقوط الرئيس المخلوع حسني مبارك في الحادي عشر من فبراير/شباط سنة 2011، عكفت أجهزة الاستخبارات المصرية والإقليمية والدولية على دراسة أسباب الثورة والقوى المحركة لها من النخب السياسية والحركات الثورية والجماعات الفكرية الفاعلة في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011. ورصدت بدقة الطبقات الاجتماعية التي شاركت في الثورة وحددت خريطتها الديموغرافية.

وثورة يناير لم تولد يوم 25 يناير من العدم، ولكنها ولدت كغيرها من الثورات الاجتماعية بعد أحادث تراكمية مهدت لاندلاعها

رغم الاتفاق على أن جميع فئات الشعب المصري شاركت بطريقة أو بأخرى في الثورة، ولكن الدراسات أجمعت على أن شباب الطبقة الوسطي شكلوا العمود الفقري للثورة وساعدوا على استمرار جذوتها لأكثر من أسبوعين. أما الطبقة العليا الغنية والطبقة الدنيا الفقيرة فكانت مشاركتهما رمزية. فالأولى شريحة صغيرة في المجتمع ومستفيدة في الغالب من النظام الحاكم  وكان منها القوادون وموردو البلطجية. أما الثانية فمشغولة بلقمة العيش عن المشاركة السياسية، ثم خرج منها المواطنون الشرفاء وبلطجية النظام الذين أذاقوا الثوار الويلات.

وتشمل الطبقة الوسطى السواد الأعظم من أبناء الفلاحين والعمال الذين استفادوا من مجانية التعليم بعد ثورة يوليو/تموز سنة 1952، وتخرجوا من الجامعات وانخرطوا في مختلف التخصصات المهنية والمهن الحرة، ذلك أن 57% من الشعب المصري يعيش في المحافظات الريفية.

وثورة يناير لم تولد يوم 25 يناير من العدم، ولكنها ولدت كغيرها من الثورات الاجتماعية بعد أحادث تراكمية مهدت لاندلاعها. وفي الدوائر السياسية يوجد اتفاق على أن انتفاضة الفلاحين ضد تطبيق قانون المالك والمستأجر في سنة 1997 واستمراره لثلاث سنوات مهدت لثورة يناير بكسر حاجز الخوف من النظام الذي شيده في الحرب على الجماعات التكفيرية وقبل مرحلة كفاية التي بدأت في سنة 2004.

كشفت الخريطة الديمغرافية للثورة أن 50% من الشهداء الذين قتلوا في خلال الثمانية عشر يوما التي سبقت تنحي مبارك سقطوا في المحافظات البعيدة عن مدينتي القاهرة والأسكندرية، أكبر المحافظات الحضرية في البلاد. وقد كان لمظاهرات الفلاحين في المحافظات الريفية، البعيدة عن حضر القاهرة والأسكندرية، دور حيوي في تشتيت قوات أمن حبيب العدلي والحيلولة دون الانفراد بالمتظاهرين في القاهرة، واستنفاد طاقتها وانسحابها في النهاية واحتلال المتظاهرين ميدان التحرير. وفي يوم موقعة الجمل في الثاني من فبراير، كان لأبناء قرى ناهيا وكرداسة وكفر حكيم وأوسيم بحكم قربهم الجغرافي من ميدان التحرير وعدد قليل من أبناء المحافظات الأخرى الدور الأكبر في صد هجوم البلطجية والدفاع عن الميدان في الساعات الأولى حين بلغت القلوب الحناجر وأحاطت بالثورة الظنون وقبل دخول الدكتور محمد البلتاجي الميدان مع ألاف المتظاهرين.

ولا يعني ذلك التقليل من دور الحركات السياسية في ثورة يناير، سواء الإخوان المسلمون، الذين شهد لهم الجميع بدورهم في حماية الثورة، أو شباب 6 أبريل وكفاية وغيرهم من فئات المجتمع الذي لا ينتمي لتيار سياسي، ولكن هؤلاء جميعا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، والفلاحون عمودها الفقري. وعدم ارتداء المتظاهرين للجلباب لا يعني أنهم ليسوا فلاحين، ولا ينفي مشاركتهم في الثورة. ذلك أن بعض من كتب عن الثورة يستبعد مشاركة الفلاحين فيها لصعوبة أن يترك الفلاح ماشيته وأرضه ليشارك في المظاهرات.

ولكن الواقع أن أبناء البيت الواحد كانوا يفوضون أحدهم للقيام بمهمة الماشية والأرض ويذهب الباقون إلى المظاهرات ثم يتناوبون الدور. كما أن غالبية أبناء الفلاحين اليوم، المتعلمين وغير المتعلمين، يفضلون ارتداء القميص والبنطلون على ارتداء الجلباب. وفي أيام الثورة الأولى وبعد انقلاب يوليو كان المتظاهرون يفضلون ارتداء القميص والبنطلون عند السفر إلى المدينة للمشاركة في المظاهرات، لأن الجلباب يلفت نظر الشرطة السرية ويسهل اعتقالهم.

وبذل النظام جهود كبيرة لإسكات صوت الفلاحين فحاصر قراهم وقتل كثير منهم بدم بارد

بعد انقلاب الثالث من يوليو، شارك الرجال والنساء والأطفال من أبناء الريف في اعتصامات رابعة العدوية والنهضة. وأكد المعتصمون من النساء وجهتهم الريفية بجلب أفران الخبيز إلى الميدان بأعداد كبيرة وصناعة الكعك للإحتفال بعيد الأضحى داخل الاعتصام. وفي الفض سقط شهداء من النساء والأطفال بالإضافة للشيوخ والرجال. وكان 70% من شهداء المجزرة من خارج مدينتي القاهرة والإسكندرية، يعني من سكان الريف.

ثم انتقلت مراكز التظاهرات المعارضة للانقلاب من القاهرة إلى المحافظات ومنها إلى القرى في طول البلاد وعرضها. واستمرت في الخروج ضد النظام لشهور وسنوات. وسجل أبناء قرى دلجا في جنوب محافظة المنيا، والميمون بمحافظة بني سويف، وناهيا وكرداسة وجزيرة الوراق بمحافظة الجيزة، والبصارطة والخياطة بمحافظة دمياط، وأويش الحجر بمحافظة الدقهلية، والعدوة بمحافظة الشرقية ملاحم أسطورية في مواجهة الانقلاب.

وبذل النظام جهودا كبيرة لإسكات صوت الفلاحين فحاصر قراهم وقتل كثيرا منهم بدم بارد، واعتقل الآلاف من الشيوخ والرجال والنساء والبنات والأطفال، وحرق البيوت، واقتحم القرى بالطائرات المروحية والدبابات والمدرعات، وحكم على مئات منهم بالإعدام، ولم تسلم النساء من الخصومة السياسية، ولأول مرة في مصر يحكم على سيدة بالإعدام لأسباب سياسية.

بعد توليه الحكم، اتخذ الجنرال السيسي قرارات انتقامية بحق الفلاحين عقابا لهم على دورهم في ثورة يناير ومعارضة الانقلاب. ومارس بحقهم سياسات إفقار ممنهجة ليس لها تفسير إلا تجفيف منابع الثورة في المستقبل بإسقاط أكبر عدد من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الدنيا التي تنشغل بفقرها عن المشاركة السياسية وتحريك المظاهرات والاحتجاجات. فألغى السيسي قرار الرئيس الراحل محمد مرسي بإعفاء الفلاحين من مديونيات ﺑﻨﻚ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﻭﺍﻻﺋﺘﻤﺎﻥ ﺍﻟﺰﺭﺍﻋﻰ وإسقاط غرامات زراعة الأرز عنهم.

ورفع السيسي أسعار الأسمدة من 1300 جنيه للطن في سنة 2013، إلى 3200 جنيه للطن. ما يعني أن سعر شيكارة السماد زاد من 65 جنيها إلى 260 جنيها. وفي الواقع لا يجدها المزارع بهذا السعر ويضطر إلى الشراء من السوق الحر بسعر 5200 جنيه للطن. وللتأكيد على أن السيسي هو متخذ القرار، فقد نفت وزارة الزراعة، المنوطة بالدفاع عن حقوق الفلاحين مسؤوليتها عن قرار الزيادة، وقال المتحدث باسمها إنه خارج عن إرادتها.

ورغم أن محصول الأرز هو المحصول الأهم لغذاء المصريين بعد القمح والأوفر في العائد للفلاحين، قام السيسي بتخفيض المساحة من قرابة مليوني فدان في سنة 2012 إلى 750 ألف فدان فقط. وأمر بتعديل قانون الزراعة ليسمح بفرض الغرامة والسجن بحق المزارعين، وتوقفت وزارة التموين عن شراء المحصول من الفلاحين، وتحولت مصر من التصدير إلى الاستيراد، وزاد السعر من جنيه ونصف ووصل إلى 10 جنيهات، واختفى من الأسواق، ووصل عجز الأرز في محافظات الصعيد إلى 100% والوجه البحري إلى 80%، ثم رفعه من منظومة السلع التموينية ليعاقب الفلاح ويحرم المواطن.

أما القطن المصري، عمود الصناعة المصرية وصاحب الشهرة العالمية، والذي يدر الدخل الوفير للفلاحين ويشغل العمال في الجني وفي مصانع الغزل والنسيج، فامتنعت الحكومة عن شرائه من الفلاحين، وانخفض سعره حتى أصبح لا يغطي تكلفة جنيه، فلم يجد المزارعون بد من إضرام النار في حقول القطن، ورغم ذلك لم تتدخل الحكومة لإنقاذ المحصول الإستراتيجي، وتراجعت مساحته في عهد السيسي من مليوني فدان إلى 130 ألف فدان فقط وخرجت مصر من سوق القطن الدولية.

وبدلا من دعم منتجي القمح كما تفعل حكومات الدول، فضل شراء القمح المستورد من الدول الداعمة لنظامه

وللإنتقام من أبناء الصعيد الذين كانوا سببا رئيسا في فوز الرئيس مرسي بكرسي الرئاسة في سنة 2012، يرفض السيسي زيادة أسعار قصب السكر، المحصول الرئيسي في الصعيد، رغم مضاعفة الحكومة سعر بيع السكر من ثلاثة آلاف جنيه للطن إلى عشرة آلاف جنيه، بزيادة 233%. ورفضت مطالب المزارعين ونقابات الفلاحين بتحسين الأسعار لتغطية تكاليف الزراعة ووقف الخسائر.

وأهمل السيسي محصول القمح، الغذاء الرئيسي للمصريين، وبدلا من دعم منتجي القمح كما تفعل حكومات الدول، فضل شراء القمح المستورد من الدول الداعمة لنظامه على شرائه من الفلاحين بسعر مربح. فتكبد الفلاحون الخسائر بسبب زراعته، وتراجعت المساحة من 3.4 مليون فدان في 2013 إلى 2.4 مليون فدان.

ومكن السيسي الجيش من الاستيلاء على المزارع السمكية في بركة غليون بمحافظة كفر الشيخ، وبحيرة المنزلة بمحافظة الدقهلية، والبردويل بشمال سيناء، ومنع الصيادين من الصيد فيها إلا بشروط مجحفة. ويتعرض للقتل من يجرؤ على الصيد. ولا يجد الصيادون مكانا للصيد وكسب الرزق إلا في مياه ليبيا واليمن فيتم القبض على كثير منهم أو غرقهم هناك.

وفي 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي، قتل ضابط جيش يعمل في مزرعة بركة غليون صيادا من أهالي قرية أبو خشبة المطلة على بركة غليون بالرصاص وتخلص من جثمانه بإلقائه في المجرى المائي دون مساءلة قضائية. وبعد الحادث مباشرة أصدر وزير العدل قراراً بمنح الضباط العاملين في الشركة الوطنية للثروة السمكية التابعة للقوات المسلحة صفة مأموري الضبط القضائي للقبض على من يقترب من المزارع السمكية.

ومكن الجيش من الاستيلاء على مشروعات الصوب الزراعية واستيراد اللحوم والدواجن المجمدة. ونتج عن هذا القرار تكبد مزارعو الخضروات ومربو الدواجن ومنتجو اللحوم خسائر كبيرة بسبب المنافسة غير الشريفة للجيش وقطع أرزاقهم وإغراق المنتج المحلي، وتوقف معظم المزارعين عن الزراعة وتربية المواشي والدواجن وأصبحوا عاطلين عن العمل مهددين بالفقر.

خرج الفلاحون في القرى في مظاهرات حاشدة، أطلق عليها إعلام النظام حراك الجلاليب، ولكنها بالفعل كسرت مرة أخرى حاجز الخوف

كانت الجريمة الأكبر للانتقام من الفلاحين هو هدم بيوتهم بطريقة وحشية بحجة إقامتها دون ترخيص، وهدد بنشر قوات الجيش ومعدات هندسية في كافة القرى لإبادة وهدم المباني المخالفة. وبعد أيام اجتاحت جحافل الجيش والشرطة القرى والمدن المصرية في طول البلاد وعرضها، مدججين بأسلحة ومعدات هندسية ثقيلة، ونفذوا عمليات هدم واسعة خارج نطاق القانون.

وعلى إثر ذلك خرج الفلاحون في القرى في مظاهرات حاشدة، أطلق عليها إعلام النظام حراك الجلاليب، ولكنها بالفعل كسرت مرة أخرى حاجز الخوف وأسقطوا صور السيسي وهيبته. وطاردوا مدرعات الشرطة بالحجارة في قرى القليوبية وفي الإسكندرية، وخرج الفلاحون في قرى كداية وكرداسة وكفر قنديل والعطف والبليدة بمحافظة الجيزة وهتفوا برحيل السيسي وبالحرية، وتراجع السيسي عن مخططه الهدام خائفا.

المصدر : الجزيرة مباشر