هكذا الكبار تفتقدهم الأرض.. وترحب بهم السماء

د. مالك بدري

غادرنا أستاذنا الحبيب مالك بدري عن تسعة وثمانين عامًا مودّعًا بدموع المحبّين وزفرات المحزونين ودعوات الصالحين… وميض توهّج على مدي عقود من الزّمان فملأ طباق السّودان وفجاجها سناء وسنًى… ظلًّا وارفًا وبدرًا منيرًا… له من اسمه النصيب الأوفي…

وَقَلّمَا أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ إلاّ وَمَعْنَاهُ إنْ فَكّرْتَ فِي لَقَبِه

وقدر النّبلاء أن يعيشوا كبارًا، ثمّ توافي المنيّة أجسادهم، وتُبقي أعمالهم شهادةَ صدق على نسجهم وعطائهم…

لَقدْ لامَنِي عند القُبُورِ على البُكا … رَفِيقي لِتَذْرافِ الدُّمُوعِ السَّوافِكِ

فقالَ: أَتَبْكِي كُلَّ قَـبْـرٍ رَأَيْتـهُ … لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى والدِّكـادِكِ

فقلْتُ: إنَّ الأَسَى يَبْعَثُ الأَسَـى … ذَرُونِي، فهذا كُلُّهُ قَبْرُ مـالِـكِ

تخرجت أجيال عديدة تفتحت على أطروحاته تأصيلا وتنزيلًا، وأسّس مراكز علاجية للإدمان في البلاد التي زارها، وكان خير عون للجامعات والمشافي

ولاريب فإنّ المولى كريم قد جمع في شيخنا الحبيب مالكٍ من محاسن الخصال وجميل السجايا وتنوّع المكارم ما هو به خليق وبمثله جدير. وسأقف عند محطّات ثلاث:

أوّلًا: مسيرته العلمية التي كانت حافلة بالعطاء والإنجاز، استهلّ مسيرها من بيروت في مطلع الخمسينات في رحاب دراسات علم النّفس، ثم إلى مدينة ليستر بإنجلترا في حقل دراساته العليا، وهو يزاوج في فلسفة العلوم بين تأصيل المعرفة في رحاب القراءتين (الوحي والكون) وبمشكلة علماء النفس المسلمين (في جحر الضّبّ)، وأسهم مع المعهد العالمي للفكر الاسلامي في تأصيل العلوم الإنسانية والاجتماعية، ثمّ ازدهرت أبحاثه في قضايا الإدمان والكحول والإيدز، وقدّم دراسات رصينة اتّسمت بالعمق والتأصيل والبدائل، وحازت على قبول عامّ ورضا علميّ واسع، وقد اعتمدت جنوب أفريقيا أحد مؤلفاته (كتاب العامّ)، وقد أمّ الكثير من الجامعات للتدريس، منها: السعودية والأردنّ والسودان وباكستان وماليزيا وتركيا.

ثانيًا: سيرته العملية فقد تخرجت أجيال عديدة تفتحت على أطروحاته تأصيلا وتنزيلًا، وأسّس مراكز علاجية للإدمان في البلاد التي زارها، وكان خير عون للجامعات والمشافي والمراكز التي تعمل في حقل العلاج النفسي. وفي سياق سيرته العملية والدعوية فقد كان من أهل المسلك العرفاني الذي أفاد منه كثيرًا في دراساته النفسية، لاسيما الغزالي والحارث المحاسبيّ وابن القيم وغيرهم، وقد مزج هذا السبيل في رياضاته التعبدية وأعماله القلبية، فهو بحقّ من أهل الحقائق والرقائق والدقائق…

مَرَرْتُ بِقَبْرِ ابْنِ المُبَارَكِ غَدْوَةً          فَأَوْسَعَنِي وَعْظًا وَلَيْسَ بِنَاطِقِ

وَقَدْ كُنْتُ بِالعِلْمِ الَّذِي فِي جَوَانِحِي       غَنِيًّا وَبِالشَّيْبِ الَّذِي فِي مَفَارِقِي

وَلَكِنْ أَرَى الذِّكْرَى تُنَبِّهُ عَاقِلاً           إِذَا هِيَ جَاءتْ مِنْ رِجَالِ الحَقَائِقِ

واجتمع بطيف واسع من أعلام الدعوة المعاصرة الذين استوعبتهم  الجامعات السعودية، مثل: الأستاذ محمد قطب والشيخ الغزالي والشيخ مناع القطان وغيرهم

وقد أتاح له سبقه الدعوي أن يرتاد طيف الأكابر من أعلام  الدعوة في القرن الماضي، فالتقى الإمام المودودي وشامه، وكان له إعجاب بتجربة الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، كما التقى  بالثائر  الإسلامي الأمريكي مالكوم اكس، واجتمع بطيف واسع من أعلام الدعوة المعاصرة الذين استوعبتهم  الجامعات السعودية، مثل: الأستاذ محمد قطب والشيخ الغزالي والشيخ مناع القطان وغيرهم، إضافة إلى طوافه الدعوي في أمريكا وأوربا محاضرًا، فأسّس جمعية علماء النفس المسلمين، وقد خصّه الله بصحبة النّجوم الزواهر والكواكب الدّراريّ، أمثال: الشيخ صادق عبد الله والشيخ جعفر شيخ إدريس والأستاذ الركابي والاستاذ احمد عبد الرحمن والاستاذ عثمان خالد مضوي والشيخ الحبر والشيخ عبد الرحمن رحمة والشيخ جاويش والاستاذ الزبير بشير طه والشيخ أبو حسنين والشيخ سبال والشيخ محمود برات وأمثالهم كثير، والأستاذ عصام العطار ود. العسال ود. العوا ود. إسحق الفرحان، فكانت صحبة ماتعة ورحلة ميمونة في رحاب العمل الدعوي المبارك، ولها ثمارها اليانعة وقطوفها الدانية.

أّما المحطة الأخيرة فهي مالك الإنسان، وهو في هذا تجلية مكرمات، باسط الكفين، نديّ الوجه، طلق المحيّا، رقيق القلب، نقيّ السّريرة، صافي الرّوح، حلو المعشر، كريم الخلق، خفيض الجناح، باسم الثغر، عذب الحديث، سريع النكتة، هيّن ليّن، بعيد عن التّكلّف والتعقيد، بعيد عن التّظاهر والادّعاء، يألف ويؤلف، لا يأنف أن يتعلم حتّى من تلاميذه، يعترف لكلّ ذي موهبة بموهبته، لا يحسد ولا يحقد، يكره الظلم والتسلط على عباد الله.

مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ روضة ٌ … غداةَ ثوى إلا اشتهتْ أنَّها قبرُ

سقى الغيثُ غيثاً وارتِ الأرضُ شخصَه … وإنْ لم يكنْ فيهِ سحابٌ ولا قطرُ

وكيفَ احتمالي للسحابِ صنيعة ً … بإسقائِها قَبْراً وفي لَحدِهِ البَحْرُ

هكذا الكبار… تفتقدهم الأرض… وترحب بهم السماء…

إنّ هذه الحياة الحافلة والقِمّة السامقة حريّ أن تجد اهتمامًا يليق بها توثيقًا ودراسة؛ لتخرج إلى الأجيال نورًا يضيء وشعاعًا يهدي السائرين المُدلجين إلى حين… وهو من باب الوفاء لشيخنا مالك، والبِرّ به….

له المغفرة والرحمة والرضوان وعالي الجِنان، وأخلف إخوانه وأسرته ومحبّيه ودعوته خيرًا. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

المصدر : الجزيرة مباشر