صحافة شيماء.. وأغاني المهرجانات

لماذا صار المؤدّون لأغاني المهرجانات أمثال محمد رمضان وحمّو بيكا وغيرهما هم النجوم؟

محمد رمضان

 

معركة كلامية حامية، اشتعلت جدلًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بشأن الإعلامي شريف عامر، مقدّم برنامج “يحدث في مصر” على فضائية إم بي سي مصر، بين منتقد ومهاجم بحدّة، ومُدافع عنه.. عقب ضيافته مُؤدّي أغاني المهرجانات يوسف سوستة، صاحب كليب “شيماء ارجعي”، الذي حاز ملايين المشاهدات بعد أيام معدودة من عرضه على يوتيوب.

مجتمع جهنم.. والتحيّز في الاختيارات

ردًّا على منتقديه، دافع عامر عن ضيافته لـ”سوستة” بكلام برّاق ونظري، مفاده أن الصحافة تنقل ولا تروّج.. تناقش ولا تحاكم.. تخدم مجتمعًا، وأن “هذا المجتمع، لا هو جهنم ولا المدينة الفاضلة”.

يريد عامر إقناع جمهوره، بأنه يتعامل بتجرّد وحيادية، دون اختلاق أو ترويج.. غير أن هذا الكلام لا يخلو من التضليل والمغالطة، فلم يزعم أحد أننا نعيش في المدينة الفاضلة، ولا اتهمه آخر بأنه يروّج لـ”جهنم”.. المشكلة أنه لا يوجد في الصحافة أو الإعلام عمومًا، ما يمكن أن نسمّيه حيادًا بالمعنى المطلق.

ذلك أن “اختيار” فكرة أو موضوع ما للطرح، ينطوي بذاته على ميل وتحيّز، أو تفضيل لقيمة أو اتجاه أو مبدأ ما، بغضّ النظر عن إيجابية أو سلبية القيمة أو الاتجاه.. كما أن انتقاء المصادر لمناقشة الموضوع المُختار وتحليله، لا يخلو من الترجيح للاتجاه المراد.

أكذوبة الحياد في الصحافة ورسالة الوسيلة الإعلامية

كذلك الحال، فإن زاوية التناول والعنوان والمقدّمة، والتفاصيل التي يُحرَص على إظهارها وتأكيدها.. كلّها تعبير عن اتجاهات وانحياز لأفكارٍ ما، يُراد إيصالها إلى الجمهور وإقناعه بها.. كلّ ما في الأمر، أن يكون هناك حرص على التمسّك بأكبر قدر من الموضوعية عند العرض والتناول، بُغية نجاح الرسالة الإعلامية المطلوبة.

الانحياز في الصحافة طبيعي إذن.. إنكاره هو غير الطبيعي، فليس من المُتصوَّر عقلًا ولا منطقًا، أن هناك وسيلة إعلامية بلا رسالة تسعى إلى بثّها وتوصيلها في ثنايا موادّها الإعلامية، وهذه الرسالة محكومة باتجاهات وأفكار وقِيم، يُراد زيادة مساحة الترغيب لها، وترسيخها وترويجها، خدمةً لأهداف الفرد أو المؤسّسة أو الدولة التي تتبعها.

ليس حتميًّا أن تكون أهداف الوسيلة الإعلامية سلبية، فقد تكون إيجابية.. كما أن الإيجاب والسلب هنا نسبي، وتقديره ومعانيه يختلفان من مكان إلى آخر، ومن شعب إلى غيره، وفقًا لمنظومة القِيم والمبادئ التي يعتنقها هذا أو ذاك.

الترويج لـ”سوستة” وشيماء والمُحلّل المزعوم

واقعيًّا، فإن الإعلام العربي في غالبه -ولأسباب معلومة- لا يَسرّ حبيبًا، فالمحظورات والممنوعات أكثر ممّا هو مباح، لغياب حرّية التعبير بمعناها الواسع.. المُتاح بلا عوائق أو سقف، هو الترويج لتوافه الأمور، وهو على كل حال يجلب المشاهدات والأرباح بأنواعها.

عودة إلى الإعلامي شريف عامر، واستضافته لـ”سوستة”، فهو من قبيل ركوب الترند (كما يقولون).. إذ إن “عامر” لم يناقش ظاهرة سوستة وأمثالها، للوقوف على أسبابها وكيفية الحدّ منها ومواجهتها.. هو فقط حاور سوستة احتفاءً وترويجًا له، وشيماء التي تبيّن أنها مجرّد بطة، لنكون بصدد “صحافة شيماء وسوستة”.. تمامًا مثلما احتفى -منذ فترة يسيرة- بشخص وُصِف بأنه “مُحلّل شرعي”، زاعمًا أنه تزوّج 33 مرّة، ولاحقًا، صرّح بأن كلامه لم يكن صحيحًا، بل كان مقابل مبلغ من المال على حدّ قوله، ولم يُعلَن إجراء تحقيق من جهة محايدة حتى تتبيّن الحقيقة.

 مدينة أفلاطون المثالية.. وأغاني المهرجانات

ليس مطلوبًا من عامر -بطبيعة الحال- إصلاح الكون، ولا هذا في قدرته أصلًا، ولا هو يعمل في “المدينة الفاضلة”، فمثل هذه المدينة المثالية، كانت حلمًا من أحلام الفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي عاش قبل الميلاد بـ 450 عامًا.. لكن -وبالدرجة ذاتها- ليس من الملائم الترويج لهذا النوع التافه من أغاني المهرجانات، حتّى لو كان له شعبية ويحقّق ملايين المشاهدات، إلا في حدود مناقشة القضية وأسباب هذه الرواج، وانحدار التذوّق الفني، وتحليل هذا كلّه، وسُبل المواجهة، مع فنانين بحقّ، وخبراء بعلوم الاتصال والاجتماع والنفس والتربية.

وما دمنا على سيرة المهرجانات وأغانيها، والجدل الساخن الذي لا يزال مشتعلًا حولها، منذ صدور قرار الفنان هاني شاكر، قبل أسبوعين، بمنع 19 من المؤدّين لهذا النوع من الأغاني، وعلى رأسهم حمّو بيكا.. فإن قرار المنع -هو الآخر- من القرارات السلبية التي تضُرّ أكثر ممّا تنفع، بل تُروّج لهؤلاء الممنوعين وتزيد من قاعدة انتشارهم وأغانيهم الهابطة، وفقًا لمقولة “الممنوع مرغوب”، التي ثبت مرارًا وتكرارًا سلامتها وصحّتها وتحقّقها.

هاني شاكر والمنع ونقابته.. لا يقدّمون حلًّا

ذلك أن هذه الفئة من المُغنّين للمهرجانات، وما يؤدّونه من أغانٍ هابطة، رديئة في كلماتها، ومُزعجة في إيقاعها، يجدون قبولًا لبضاعتهم وتماهيًا لدى قطاع من الجمهور.. يساعدهم على الانتشار، شيوع منصّات التواصل الاجتماعي، ووصولها إلى الجميع عبر أجهزة الموبايل والكمبيوتر.. من هنا، فإن الفنان هاني شاكر وأعضاء نقابته لا يستطيعون منع وصول هؤلاء المُغنّين إلى المنصّات التواصلية، إذ هي أدّت دورًا كبيرًا وفاعلًا في وصولهم إلى الجمهور.

قضية أغاني المهرجانات ومؤدّيها -شأن الكثير من قضايانا في المجتمعات العربية- أعمق من أن تحلّها قرارات المنع، فهذه القرارات -على سهولتها- تجاوزها الزمن، وغير قابلة للتنفيذ واقعيًّا، ولا تقدّم حلًّا عمليًّا.. إذ إن القوانين والقرارات الجبرية التي تنظّم شأنًا حياتيًّا في مجتمع ما، تجد قبولًا وامتثالًا لها حين تعالج المشكلة القائمة، وبالعكس تجد نفورًا ورفضًا من المَعنيّين بها والمُخاطبين بأحكامها، واتفاقًا غير مكتوب على تركها والتمرّد عليها، طالما أنها لم توفّر حلولًا معقولة ومقبولة ومنطقية.

 الإيقاع الحركي الصاخب.. ولماذا رمضان وبيكا بديلًا؟

إن الحلّ لمثل هذه القضية -أعني أغاني المهرجانات ومُؤدّيها- يكمن في إخضاع هذه الظاهرة أو القضية للدراسة العلمية، بمعرفة علماء النفس والاجتماع والتربية والاتصال، بجانب فنانين موثوق بهم، للوقوف على أسبابها، والإجابة عن عشرات التساؤلات، على شاكلة: لماذا يتماهى الجمهور مع هذه الأغاني ويتقبّلها ويندمج معها؟ هل الإيقاع الحركي الصاخب له دور جاذب لها؟ وهل هذا تعبير عن كبت كامن في النفوس يتم التنفيس عنه بهذا الصخب؟

لماذا انحدر التذوّق الفني إلى هذه الدرجة؟ لماذا صار هؤلاء المؤدّون لأغاني المهرجانات -أمثال محمد رمضان وحمّو بيكا وغيرهما- هم النجوم، والبدائل التي حلّت محلّ فنانين عظام، مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ووردة ونجاة ومحمد رشدي ومحمد قنديل وسعاد محمد وعزيزة جلال وليلى مراد، وغيرهم ممّن يصعب حصرهم؟

الكلمات وأحمد شيبة و”آه لو لعبت يا زهر”!

هل هو غياب التربية الفنّية والجمالية في المدارس أم التشوّه الذي يلاحق القِيم الجميلة في حياتنا؟ هل هو تراجع الفن الراقي، وعدم توافر قوّة الدفع اللازمة له، ودعم مؤسّسات الثقافة لدفعه إلى الواجهة؟

هل في كلمات هذه الأغاني ما يلامس رغبات أو همومًا وحاجات نفسية لدى المتلقّي؟ فمثلًا، ظلّ أحمد شيبة يغنّي سنوات طويلة مقابل شهرة محدودة نسبيًّا، إلى أن أدّى أغنية “آه لو لعبت يا زهر” التي قفزت به إلى سماء الشهرة الواسعة بسرعة كبيرة، لأن كلماتها تغازل حاجة المتلقّي ورغبته في ضربة حظ تخلّصه من متاعب المعيشة التي يعانيها.

قضية أغاني المهرجانات إذن لن تُحلّ إلّا بدراسة علمية لها من خبراء متخصّصين.. أمّا الترويج لكليب شيماء وأغاني المهرجانات، فهو ما يجب ألّا يكون حتى لو بقرارات المنع.. هذا لا يُغني عن طرح البديل المرغوب، بتيسير السبل والبرامج المُخطّطة لجذب المواهب الحقيقية، ودفعها مع الفن الراقي إلى التصدّر على الساحات.

المصدر : الجزيرة مباشر