هل تحسم مواعيد ديسمبر التونسي أمر الانقلاب؟

في الشهر الرابع للانقلاب في تونس بدأ الناس يتحسسون جيوبهم. أول الرواتب تأخرت في قطاع النقل الحديدي فأوقفت الخدمة كما تأخرت الرواتب التقاعدية ومنح عمال الحظائر وهم أكثر الفئات هشاشة ويرى منها الآن تململ.

يجلس الانقلاب في شهره الرابع على صفيح ساخن والنقابة التي تعودت ملاعبة الأفاعي عبر تمثيل دور المعارضة تكلمت بلهجة مختلفة ووصفت الوضع بأن البلد انقلب على رأسه ولا حلول تبدو في الأفق مع دعوة صريحة للحوار وعودة إلى خطاب التهديد بالشارع. وقد حددت انطلق التصعيد يوم الرابع من ديسمبر بوقفة  نقابية قرب  ضريح فرحات حشاد والتي شاءت الأقدار أن يكون بجوار قصر الحكومة بالقصبة. ضرب الرئيس وزمرته موعدا مع الشارع يوم السابع عشر الجاري وسنرى ونزن الأحجام والقدرات ونقدر مستقبل الانقلاب على ضوء مواعيد ديسمبر.

مواعيد النقابة ستكشف حجمها.

تحرك ائتلاف (مواطنون ضد الانقلاب) يوم 10-10 بإسناد كامل من حزب النهضة فاسقطوا وهم الشعب مع قيس وأظهروا شعبا حقيقيا لا افتراضيا ضد قيس وكان لشعار (الشعب يريد ما لا تريد) أثر الزلزال على وهم المنقلب ثم كروا عليه بخريطة طريق يوم 14-11 ليحددوا بوابة الحل الوحيد عبر عودة الشرعية البرلمانية. ثم تريثوا في انتظار أن تكشف الأزمة عمق المأزق الذي تردى فيه الانقلاب. طبخة الملوخية المتأنية بطريقة عجائز تونس كشفت بعض الحكمة في التريث فالنقابة التي كانت تراقب الوضع على طريقتها وصلت آخر قدراتها على الصبر فنزلت إلى الشارع في موعد أول بعد أن كانت تنصح بتجنب الشوارع المتقابلة.

صعدت النقابة يوم الرابع من ديسمبر وتكلم الأمين العام محذرا من أن “الاحتقان الاجتماعي واليأس بات يهدد بالانفجار”، معتبرا أن “غياب التفاعل مع القوى السياسية والاجتماعية الوطنية لن يفضي سوى لتحويل الشعب إلى كيانات متناحرة عاجزة عن التعايش السلمي”. وقال الطبوبي “التونسيون يرفضون العودة إلى ما قبل 25 يوليو ولكن من حقهم معرفة مسار البلاد”، مضيفا أن “الفصل بين السلطات وتنقيح القانون الانتخابي والدعوة لانتخابات مبكرة شفافة ونزيهة بات أمرا ضروريا”. وشدد على أن القضاء “المستقل ركن أساسي من أركان الدولة ومقوم للاستقرار.

التقت النقابة أخيرا مع خارطة الطريق التي أعلنها ائتلاف (مواطنون ضد الانقلاب) وهو مؤشر على توسع جبهة المعارضة وإن لم يظهر التنسيق الميداني بشكل صريح. وعلى نتيجة تحرك يوم الرابع سيكون هناك تحرك آخر يبني على نتائج يوم 4 يوم العاشر من الشهر (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) ونرجح أن النقابة تركب كعادتها موجة الحقوق الاجتماعية لذلك اختارت الموعد الحقوقي وفي كلا الموعدين نفس الرسالة “المنقلب لم يعد يملك الحل ولا يمكن أن يكون جزءا من الحل”.

ننبه هنا إلى تفاصيل مهمة.

النقابة ليست على قلب رجل واحد فالشق اليساري والقومي داخلها لا يزال يعلن ولاءه للانقلاب ويدعوه إلى معركة الاستئصال التي هي معركته الوحيدة. بينما يبدو الأمين العام وشقه غير اليساري قد حسم أمره والدعوة إلى الشارع هي في جانب منها حسم بعض المعركة الداخلية صلب النقابة. وهو ما يمكن أن يضعف التعبئة ضد الانقلاب لذلك نرجح أن ستسير النهضة أنصارها مع الشق النقابي المعارض (الأمين العام) فضلا على أن (مواطنون ضد الانقلاب وبعضهم كان نقابيا) سيدعمون عودة النقابة إلى شارع المعارضة. وفي رأيهم أن ذلك استعادة النقابة من التوظيف الاستئصالي.

نقرأ عودة النقابة من زاوية أخرى مهمة وهي أن القراءة القائلة بنهاية الانقلاب قد رجحت وبالتالي يصبح التصعيد النقابي هو اشتغال على حصص ما بعد الانقلاب ومنع النهضة من الاستفراد بقيادة كل شارع المعارضة. (أي الفوز بشرف إسقاط الانقلاب) فلهذا ثمن في ما بعده . كل حديث عما بعد الانقلاب يصير الآن حديثا عن تقاسم الحصص السياسية بعده ونظن أن هذا قد صار برنامج عمل لدى الكثيرين وآخرهم الشق النقابي الذي سيتحرك في شهر ديسمبر. وهذا واقع جديد يتبلور.

المنقلب يستعد للشارع

ردود المنقلب ستكون يوم السابع عشر فقد دخل أو عاد إلى الشوارع المتقابلة فأنصاره لم يخرجوا منذ يوم الثالث من شهر 10. وقد أصدر مرسوما يحدد يوم 17 -12 يوم انطلاق الثورة في سيدي بو زيد تاريخا رسميا للثورة بعد أن كان من سبقه قد اتخذ تاريخ 14-01 (يوم هروب الدكتاتور) عيدا رسميا وإعلاء هذا اليوم لمرتبة العيد الوطني واتخاذه يوم للاحتفال في الشارع سيكون موعدا حاسما في قياس حجم التأييد الشعبي للانقلاب.

هل سيقف المنقلب خطيبا في شارعه؟ لم نعلم بعد بالتفاصيل ولكن حدود علمنا أن الرجل يفقد ترابط جمله في الحديث المباشر وفي كل ظهور له كان يبدأ من مكان ليقفز إلى آخر دون ربط منطقي وقد غاب في كل خطاب حديث البرامج والخطط الكاشفة لعقل سياسي ناضج بما يكفي ليقود شارعا وصل انحباس الرواتب وطبع العملة الوطنية دون رصيد تنموي. لقد كال للشعب كل التهم والأوصاف المرذولة وآخرها أنهم رواد خمارات. لقد صارت أوصافه لمعارضيه محل تندر وقد استنفذ كل معجم السباب السائد ولم يبق إلا بعض اللفظ السوقي وقد لا يتورع عنه. لذلك فإن خطابا جماهيريا سيكون بمثابة ضربة على الرأس يوجهها لنفسه بيديه وسيضاعف أزمته بنفسه إذا خطب في سيدي بوزيد كما فعل منذ شهرين. ونرجح أنه لن يجرؤ على ذلك وسيراقب من عليائه قوة أنصاره وحجمهم. لقد صار خطاب الشارع نقطة ضعفه القاتلة.

هل سيملأ الشارع بما يعادل شارع معارضيه؟ في كل الأحوال لقد قرر أن يزن نفسه ويزن أنصاره. بعد يوم 17-12 وستكون الصورة أوضح بعد ذلك في الداخل والخارج طبعا. (لقد سبق له أن روج أرقاما خاطئة عن حجم أنصاره ولكن الصور كاشفة للخارج خاصة والخارج يراقب من قريب كل حركاته).

نلتقط مؤشرات فشل مسبقة.

كثير من أنصاره لا يوافقونه على تمجيد الثورة لا يوم 17 ولا يوم 14 وهم معادون لهذه المواعيد وللفظ الثورة في ذاتها وينكرون حصولها. ولذلك يعتبرونه دخيلا وخاصة منهم طبقة رجال الأعمال الذين توسموا فيه خيرا.

كثير من أنصاره طامعون في غنائم سياسية وقد بدا غير مهتم بهم بل أظهر لهم الاحتقار وأهمهم حركة الشعب واليسار الاستئصالي ولم يستفيدوا من وجوده في شيء يذكر. وفي تكليفه(الولاة) المحافظين الجدد تبين أنه يقدم الولاء لشخصه على الخبرة الإدارية والسياسية ولذلك فإن كثيرا من الطامعين من ذوي الخبرة المزعومة بقوا على حافة ملعبه مع شعور كبير بالخيبة والنقمة.

كثير من أنصاره من النخب الحضرية خاصة يشاركونه العداء للإسلاميين لكنهم يخشون ضياع الدولة التي يعتبرونها ميراثا لهم وهم يرونه يفتتها بلا برنامج بديل لذلك توقف كثير منهم عن نصرته واتخذوا موقفا حذرا. وفيهم من يقول لن نقبل أن يكون ثمن تخليصنا من (الخوانجية) هو التضحية الدولة. بمن فيهم حزب الفاشية التي تزعم تملك الميراث البورقيبي.

وأكبر من كل هؤلاء عددا أولئك الفقراء والمهمشين الذين أوهمهم باستعادة حقوقهم (من لصوص النهضة) فغدر بهم في حركتين حاسمتين مشكلة مصب المزابل في مدينة عقارب (وسط) والقبول باستعادة المهاجرين غير الشرعيين باتفاق سري لم يعلن عنه مع الايطاليين والفرنسيين وقبضه ثمنا لذلك فضلا على أنه لم يفلح في الإمساك بملف فساد واحد لأي منتم لحزب النهضة.

هذه الخيبات المتراكمة ستكون حاسمة في حجم شارع يوم 17 ولن تجدي معها أسبار الآراء التي تدعمه كذبا وزورا.

شهر 12 -2021 سيكون شهر الحسم في مصير الانقلاب في الداخل والخارج. هذا الخارج الذي يخشى انفجار عنف جديد مماثل للعنف في ليبيا على حدوده. بعض هذا الخارج دولة الجزائر المجاورة والمشغولة بحروب على حدودها الغربية والجنوبية وقد دخلت صراعا كاسرا مع دولة الاحتلال ولا ترغب في توتير حدودها الشرقية الطويلة مع تونس وقد صدرت منها إشارات عن عدم رضاها عما يجري بجوارها ونرجح أنها ستكون سعيدة بنهاية الانقلاب فهو وجع رأس إضافي يؤرق ليلها المتوتر أصلا).

هل سيحتفل الشارع بيوم 14-01 ويشمت في من أراد تغيير الموعد؟ هذا حديث مفرط في التفاؤل. الطريق ما يزال طويلاً فالقوة الصلبة للدولة دخلت السياسة وصمتها الحالي لا يبشر بتغيير سريع في الموقف. وهي لا تعدل موقفها بسرعة على حجم الشارع حتى اللحظات الأخيرة. لكن لنتريث في طبخ الملوخية على الجمر على طريقة عجائز تونس. بعض الطبخة هو أن يحسم كل نصير صادق للديمقراطية في الحزيبات الميكروسكوبية التي ساندت الانقلاب نكاية في خصومهم الإسلاميين والنظر إلى تراجعاتهم الخائبة كمناورة إضافية للغدر بها بعد سقوط الانقلاب. فهؤلاء أخطر من الانقلاب.

المصدر : الجزيرة مباشر