في العام الـ 12.. شجرة الربيع العربي تجف ولا تموت

في يقيني أن الربيع العربي صار حقيقة ثابتة، يستحيل طمسها مهما مرت السنوات، ومهما مارست النظم الجديدة القديمة التشويه والتضليل بشأن الأهداف النبيلة الوطنية والديمقراطية والإنسانية لانتفاضات الشعوب الحية.

يمكن التلاعب بوقائع وأحداث التاريخ لفترة، ومعروف أن من يحكم يكتب التاريخ على هواه لخدمة أهدافه، لكن على المدى البعيد لا يمكن مواصلة هذا التلاعب والتحريف، إذ حتمًا ينكشف التزييف عندما يُعاد كتابة التاريخ نفسه بأقلام الحقيقة النزيهة في مراحل تالية بعد غياب تأثير ونفوذ أصحاب الحكم وتحالفات المصالح.

لكن المشكلة التي لا حل لها في السرد الصحيح والمجرد للتاريخ هى تغييب أطراف أساسية ساهمت في صنعه، إما أبديًّا بالرحيل الطبيعي أو التعسفي، أو بتكميم الأفواه، أوعدم التجاسر أو التكاسل عن كتابة وتسجيل الدور الذي قامت به الأطراف الفاعلة في صناعة الأحداث.

ثورة يناير المصرية وما تبعها من أحداث وتطورات غاية في الأهمية تعاني هذا الوضع، فأطراف مفصلية صانعة لها، أو شاهدة عليها، ترحل تباعًا دون أن تقول كلمتها، سواء أكانت هذه الشخصيات مع الثورة وأهدافها، أم كانت خصمًا لها، أم كانت تنافقها وتعمل ضدها سرًّا ثم علانية، أم كانت حسنة النية سيئة العمل والأداء عندما تولت مسؤوليات، أم قامت بأدوار خلال العمر القصير للثورة المظلومة بأبنائها وبكارهيها، ومن لا يزالون على قيد الحياة لا يتكلمون ولا يكتبون لأسباب إما فوق طاقتهم، أو رغبة منهم في الهدوء بمرحلة خريف العمر.

لكن المؤكد أن كل حدث مفصلي في حياة الأوطان والشعوب يترسخ في الذاكرة الجمعية، إن إيجابًا عند البعض، أو سلبًا عند البعض الآخر، ويناير هكذا، وكل شقيقاتها من الانتفاضات والهبّات الشعبية العفوية التي استهدفت تغيير الواقع السيئ إلى آخر أفضل وأكثر حرية ورشدًا وعدالة وإنسانية، قبل حرفها عن مساراتها وأهدافها الخيرة ودخولها في دروب معتمة وأنفاق مظلمة.

شجرة من نوع جديد

والثورة في مصر وغيرها من أوطان الربيع، مثل بذرة نبتت فخرجت منها شجرة من نوع جديد على طرائق التغيير عربيًّا، وارتفعت هذه الشجرة عن الأرض سريعًا، وشاهدها الناس جميعًا، وهذه الشجرة قد تجف عمدًا بفعل الحصار، لكنها قطعًا لا تموت، وحتى لو قُطِعت فلن يقود ذلك إلى استئصال جذورها من باطن الأرض ومن على ظهر الوجود، الجذور متغلغلة في عمق التربة مهما حفروا عميقًا لاقتلاعها، وكلما انغرست معاول الحفر سبقتهم الجذور وتمددت في العمق، فالإنسان توّاق بفطرته إلى حريته وإعلاء إرادته ونيل حقوقه.

كما أن جذور الشجرة مستقرة في العقول والوجدان لدى أولئك الذين لا يفارقهم حلم التغيير الإيجابي، هذا الحلم ليس لأنفسهم أولًا، إنما لشعوبهم وأوطانهم ابتداءً، حتى هذا الصغير سنًّا الذي عاصر يناير وكان يحبو في تفاعلات وفوران العالم الجديد عليه فإنه يكبر وهو يتذكر أنه عاصر أو عايش أو شارك في عمل كبير مهم.

لم يستطع الاحتلال الإنجليزي محو ثورة المصريين في عام 1919، وهى علامة ونبراس حتى اليوم، وثورة يوليو 1952 سجلت نفسها في تاريخ مصر رغم كونها تغييرًا بقوة الدبابة، وحقب حكم نجيب وعبد الناصر والسادات ومبارك لا يمكن شطبها أو التهرب من التحدث عنها وذكر ما لها وما عليها، والتاريخ في مصر يبدأ صفحة جديدة بـ 25 يناير 2011، ومن برزوا بعدها هم صفحات في تاريخها يصعب نزعها.

هذا الحدث المزلزل فوق طاقة الرافضين له والمناكفين بشأنه، فهو أكبر منهم ومن محاولات محمومة لإخفائه أو شطبه من الذاكرة الوطنية، وهو حقيقة دامغة غيّرت كثيرًا في العقل الجمعي العام، حتى الذين دخلوا في عداء مع يناير، بسبب معتبر أو من دون سبب، لا يقدرون على إزالتها من الوجود أو من ذاكرتهم.

التغيير إلى الأمام

أحيانًا التقي أناسًا لهم صور سلبية عن يناير، وهم يتفقون -دون ترتيب بينهم- على أن ما لحقهم من ضرر أو خوف أو قلق على أنفسهم ومصالحهم وممتلكاتهم وراء عدم انحيازهم لها، لكنهم بعد مرور 11عامًا عليها، ومع تطورات عكسية لحياتهم وعيشهم جاءت بعدها، لم يعودوا بالكراهية ذاتها لها، بل تلمس لديهم حسرة على معقولية تكاليف المعيشة والحياة وحرية القول والحركة خلال أيامها.

الثورة كفكرة وهدف عظيم للتغيير إلى الأمام ليست المسؤولة عما جرى بعدها من بعض مظاهر سلبية، إنما المسؤوليات تتوزع بين الأدوات المحركة لها أو الفاعلة فيها بما وقع منها من أخطاء وإساءات تقدير، وكذلك المتربصون بها منذ يومها الأول حفاظًا على مصالحهم التي تتعارض حتمًا مع أي تغيير على الطريق الصحيح، وهؤلاء كانوا العدو الأول والصريح لها، وأمثالهم يعارضون مسبقًا أي تغيير، وهم مع بقاء الأوضاع على حالها مهما كانت سوءاتها لأنهم المستفيدون وحدهم.

كل حركة شعبية وطنية واسعة سلمية شريفة -عفوية أو منظمة- لا تكون من فعل الشيطان، إنما هى قوة دفع تسعى لتحقيق أهداف تبتغي صالح الفرد والمجتمع، وصالح الدولة والسلطة، وصالح العالم من حولهم، وبالنظر إلى أي دولة متقدمة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، فالواضح أنها بلد أمن وأمان ورفاهية واحترام وكرامة لمواطنيها، وإرادة للمواطنين في تصريف شؤونهم عبر اختياراتهم لمن يحكمهم ويمثلهم، وهذا ما كان يريده الربيع.

وبالنظر مرة أخرى إلى هذا البلد المتقدم أو ذاك ستجده عامل استقرار وسلام للمحيط الإقليمي والدولي من حوله، وكان ضمن أهداف ثورات الربيع، الاستقرار الوطني القائم على الرضا العام وليس الكبت العام، والأمن القائم على كرامة الإنسان وليس انتهاك حقوق هذا الإنسان، والعدالة التي تساوي بين الكل وتصهرهم في بوتقة المواطنة قولًا وفعلًا من دون فارق بين حاكم ومحكوم وبين ابن رجل كبير وآخر بسيط إلا بالكفاءة والجدارة والإخلاص، وهذا مفيد للدولة والمجتمع ومفيد للجغرافيا من حولها ومفيد للعالم كله.

وبالتالي، فالتغيير الإيجابي كما هو مصلحة محلية وطنية داخلية أكيدة، فإنه مصلحة عالمية ثابتة، لكن مكاييل العالم -خاصة الديمقراطي الحر- تتسم باختلال شديد، فهو لديه تناقض بارز بين شعاراته وقيمه وبين أفعاله وممارساته حيث يتخاذل عن دعم تأسيس ديمقراطيات حكم وتكريس حريات وحقوق الأفراد والمجتمعات، ويتجه إلى دعم أنظمة قد تستبد بالحكم، أو لا تستند إلى تأييد شعبي حقيقي، أو لم تأت وفق آليات ديمقراطية معروفة، في نظرة ضيقة لمصالحه.

مع هذا، فإن المنطق والعقل الموضوعي يفترضان أن تغيير الواقع وبناء الدولة الديمقراطية العادلة لا يكون إلا بأيدي النظم الوطنية الراغبة حقًّا في الإصلاح بإرادة جادة منها، وكذلك الشعوب الرافضة لبقاء الأوضاع المزرية، وصيانة وحفظ هذا الهدف القريب البعيد وعدم التفريط فيه هو من صميم عملهم، كما أن الارتكان إلى الخارج وهم كبير ومخدر مدمر، وهذا هو أثمن دروس الربيع المنكسر.

مع انكساراته

الربيع العربي -مع بداية عامه الثاني عشر- كرّس وجوده، حتى لو كانت انكساراته أو نكساته أو خسائره والمآسي التي ترتبط به تتوالى من بلد إلى آخر، فالشجرة التي تُقطع تظل جذورها متغلغلة في عمق الأرض والعقل العام، أو يبقى جذعها شاهدًا حيًّا لا يموت، لتُذّكر بأن هدفها النقي أن تكون موئلًا للاخضرار والظلال والثمار والغايات النبيلة التي تبتغي بناء إنسان ووطن الحق والعدل والخير والحرية.

المصدر : الجزيرة مباشر