الحركة الإسلامية بين التحديات ومستوى الاستجابات

قبل عقدين من الزمن تقريباً كانت الحركة الإسلامية بكل أطيافها (دعوية/ سياسية/ جهادية) في مرحلة صعود وانتشار، أطلق عليها مصطلح “الصحوة الإسلامية” أو “اليقظة” أو “الإحياء الإسلامي” وغير ذلك من المصطلحات المعاصرة.

لكن في السنوات الأخيرة شهدت “الحركة الإسلامية” تراجعاً واضح المظاهر والمؤشرات خلال مسيرتها في البلدان العربية والإسلامية خاصة وجودها الفعلي على صعيد العمل السياسي الإصلاحي التغييري.

واليوم أصبح ضرورياً مناقشة العوامل التي قادت إلى هذا التراجع، وتحليل مظاهر وأسباب الفشل النسبي للجماعات والتنظيمات التي رفعت شعارات “المشروع الإسلامي” بشكل أعمق وبمستوى أكثر تخصصا وبدرجة أكبر من الصراحة بعدما وضحت نواحي التراجع والخلل، وظهرت للعيان جوانب الفشل وتكررت في نواحي كثيرة نفس الأخطاء، بهدف وضع أيادينا على مكامن “الداء” ومحاولة قدر الاستطاعة اقتراح العلاج المناسب.

الحركة الإسلامية التي بدا في لحظة من اللحظات أن الأمة أناطت بها مهمّة الإصلاح والتغيير، وراهنت عليها في عبور أزمتها الحضارية لمواجهة المشروع الصهيوني والتحدي الغربي من ناحية، واستبداد الأنظمة المتسلّطة من ناحية أخرى تعاني من أزمة شاملة ومعقّدة تعيقها وتقعدها عن القيام بهذا الدور وتلك الوظيفة.

ومن أبرز مؤشرات التراجع هو كيفية تعاملها مع قائمة التحديات التي تواجهها وتجعل من أدوارها ومسيرتها الإصلاحية والتغييرية في الوقت الحالي على الأقل موضع مراجعة وتساؤلات حقيقية وجادة، ثمة إشكالية في الوعي بالتحديات التي تواجه الحركة الإسلامية وتعوق جهودها السياسية الإصلاحية والتغييرية من ناحية، ومستوى الاستجابات التي تقدمها الحركة على هذه التحديات ونوعيتها من ناحية أخرى.

ومن أبرز التحديات

1- التحدي على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها تمثل قيادة الحضارة الغربية وحاملة المشروع الحضاري السائد، والمشاركة والحامية للسياسات المناقضة إجمالا للوجود الحقيقي للحركة الإسلامية في البلاد الإسلامية والعربية، فالتحدي على مستوى الخضوع للهيمنة الأمريكية والغربية: أضحى ظاهراً وماثلاً للعيان بحيث غدا القرار الإستراتيجي العربي والإسلامي تحدده الولايات المتحدة الأمريكية في معظم القضايا المصيرية والقضايا الأساسية، فقضية الصراع مع الكيان الصهيوني مثال بارز، كما أن ملف الحركة الإسلامية واستراتيجية التعامل معها يعد أحد أهم الملفات الأساسية المدرجة في علاقة معظم الأنظمة العربية مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبرها إجمالا من أقوي التهديدات للهيمنة والمصالح الأمريكية في المنطقة.

2- التحدي على مستوى الكيان الصهيوني: وهو الجزء الممتد في بقايا جسد الأمة، والذي يعد وجوده الحقيقي نفيا للوجود الحقيقي لإرادة الأمة وكيانها، ويمتلك رؤية واستراتيجية ثابتة للتعامل مع قضايا المنطقة، وهو يدرك على نحو واضح أن عدوه الحقيقي هو الحركة الإسلامية ذات الامتداد الشعبي.

3- التحدي على مستوى صراع المشاريع الأممية وتأثيرها على العالم الإسلامي خاصة قلبه وهي المنطقة العربية، فبالإضافة إلى المشروع الأمريكي والصهيوني توجد مشاريع أخرى متنافسة مثل المشروع الإيراني، والروسي والأوربي والصيني..إلخ، وكلها مشاريع تحمل استراتيجيات متفاوتة في تعاملها مع الحركة الاسلامية تتراوح بين الاستئصال والاحتواء على هامش المعادلة السياسية أو التوظيف.

4- التحدي على مستوى الأنظمة السياسية الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي، وأعني (أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية) والتي تدور بالتبعية بدرجات متفاوتة في فلك المشروع الأمريكي، كما تمارس الحماية بدرجات متفاوتة أيضا للاحتلال الاستيطاني الصهيوني، ثم موقف هذه الأنظمة الحاكمة من الحركة الإسلامية إذ تَعتبر -بتفاوت بينها في الدرجة- الحركة الإسلامية هي النقيض الأساسي والعدو الرئيسي لها في الوقت الحالي، ولذلك فإن وجودها الاجتماعي والسياسي يتراوح بين “الحظر القانوني” والسماح الفعلي المحسوب، وتعد الأداة الأمنية في غالب الأحيان هي أداة التعامل مع الحركة الإسلامية عبر حصار أمني تتمثل مفرداته في عمليات القبض والاعتقال والإجهاض وشل الفعالية، ويعد “مجلس وزراء الداخلية العرب” المؤسسة العربية التنسيقية الأساسية في هذا الصدد.

5- التحدي على المستوى الفكري والمعلوماتي النابع من الإطار الدولي، فالتنميط والأمركة أحد مظاهر العولمة وجوانبها والنقيض لفكرة العالمية ولو في أحد أهم مستوياتها وهي أحد مرتكزات الحركة الإسلامية، ومن آثارها إضافة إلى عملية التنميط تذويب الهوية، وفي نفس الوقت إبراز منطق الأقليات الإثنية والدينية الأمر الذي يمثل تحدياً من نوع آخر للحركة يتطلب نوعا محددا من الاستجابة.

6- التحدي على مستوى شعبية الحركة الإسلامية وتراجعها: شعبية الحركة الاسلامية في صعود وهبوط بحسب الظروف والأحداث المختلفة، وعلى أي حال فإنه لا يمكن أن يتم إصلاح أو تغيير على أساس الاهتمام والتعاطف الشعبي فقط، كما أن المراهنة على مواقف ثابتة للرأي العام أو خصائص دائمة خطأ استراتيجي وقعت فيه الحركة الإسلامية.

7- التحدي على مستوى غياب الوعي بمسيرة الحركات الاجتماعية والسياسية والدينية الإصلاحية والتغييرية الناجحة والفاشلة في مختلف النماذج الحضارية، لكي تستخلص العبر وتستفيد من تجارب النجاح وتتوقى جوانب الفشل والانهيار والتراجع، بل الأدهى من ذلك عدم استفادة الحركة من تجاربها هي ذاتها، ومراجعة وتقييم حقيقي لمسيرتها بكل ما فيها من جوانب النجاح ونواحي الإخفاق! لكي تحدد الأرضية التي تقف عليها ولكي تري ما إذا كانت تتقدم لتحقيق الأهداف أم تتراجع عنها أم تراوح في أماكنها!

8- التحدي على مستوى القاعدة الاجتماعية الشعبية والطبقية التي تنتمي إلى الحركة الإسلامية: فقطاعات واسعة من هذه القاعدة مستوعبة وموظفة فعلياً لصالح مشاريع أخرى قد تكون منافسة أو مناقضة للحركة الإسلامية، مما يحد من قدرة الحركة على التغيير، وأيضا من حيث الإمكانيات والفعالية.

9- التحدي على مستوى مشروع الدولة الوطنية المستوردة ونخبها والتي لم تنبت من رحم هذه الأمة وثقافتها وموروثها الحضاري، لذلك ينظر للحركة الإسلامية أنها جزء مهمش من بنية “الدولة المستوردة” ومن النخبة التحديثية المرتبطة بها.

10- التحدي على مستوى غياب “الرؤية” والمشروع السياسي:

لا ينكر محلل جاد أن هناك بدرجة من الدرجات أفعالا حضارية وإصلاحية وسياسية تقوم بها الحركة الإسلامية، لكن الإشكالية أنها لا تنبع من رؤية محددة، ومن ثم فلا تصب في النهاية في خدمة أهداف واضحة، لذلك تعاني الحركة الإسلامية بداية من عدم وجود رؤية منهجية للتعامل مع الأنظمة السياسية الحاكمة، وكذلك المجتمع، كما أنها لا تمتلك مشروعا سياسيا إصلاحيا أو تغييريا، فالتصور والرؤية الذي طرأ عليها حين تحولت من حركة ثورية تغييرية إلى حركة إصلاحية دعوية، وهو التغيير الذي كان ثمرة عدم الاعتراف بالفشل ومحاسبة القيادات المخطئة، فالتصورات المختلفة والرؤى المتناقضة وغير المتناسقة عن ملامح الإصلاح والتغيير، نتج عنها الكثير من الرؤى المختلفة في تصور طبيعة الصراع والتحديات التي تواجه الحركة، ومن ثم أساليب التعامل معها والاستجابة لها، وهكذا يوجد داخل الحركة الواحدة حركات وجماعات متفاوتة في درجات إلي حد التناقض في بعض الأحيان. وهذا التحدي قد يخفت تحت ضغوط التحديات الخارجية الواقعة على جسد الحركة، ولكنه موجود على كل الأحوال، ويمكن أن يظهر في لحظات تاريخية، وينفجر في سياقات معينة.

11- التحدي التنظيمي والإداري داخل الحركة الإسلامية:

وهو تحدي يعبر عن أزمة حقيقة ساهمت في صنعها عوامل واقعية، حيث حول الحركة إلى حالة إدارية تنظيمية بحيث ابتلع الجانب التنظيمي بقية الجوانب الأساسية في ممارسات الحركة، بالإضافة إلى وجود حالة من “الجمود التنظيمي” في أبنيتها، أدت إلى ضعف حلقات الاتصال بين المستويات المختلفة داخل إطارها التنظيمي، كذلك ضعف عملية التماسك الداخلي والمعاناة من أمراض المركزية المفرطة، تقليدية أساليب العمل داخل تنظيمات الحركة وعدم تطورها وفق المتغيرات المعاشة، إضافة إلى وجود “تقاليد مؤسسية” لصالح الفردية والشللية في بعض الأحيان.

12- اهتزاز مكانة القيادة ورمز القائد والثقة:

الحقيقة التحديات النابعة من داخل الحركة الإسلامية كثيرة ومتنوعة ولعل أهمها وأكثرها خطورة وفضلتُ أن أختم به هو التحدي على مستوى الأزمة القيادية، بدون شك التساؤلات المطروحة بصدد مستقبل القيادة داخل الحركة الإسلامية يمثل تحدياً حقيقيا خاصة بصدد التحول في نمط “القيادة”، والحق يقال إن معظم القيادات الحالية للحركة الإسلامية في معظم مستوياتها لا تخرج عن خصائص القيادات الحاكمة في الأنظمة العربية والإسلامية التي تعارضها، حيث يتصف كليهما بسمات وخصائص مشتركة ويعانى عدة أزمات متقاربة، منها ما تتعلق بشرعية وصولها للقيادة، ومن ناحية ثانية بأحقية وجدارة استمراريتها فيها، ومن ناحية ثالثة تتعلق بشرعية الإنجاز الذي تحققه وكفاءة الأداء في الأدوار التي تقوم بها…إلخ، فهي قيادات مؤبدة في مواقعها، وليس ثمة طرق محددة وواضحة لتداول القيادة داخلها، كما أن غالبية القيادات وصلت إلي مواقعها وتستمر فيها غالبا بطرق أقرب إلي التغلب منه إلي الشورى الحقيقية، كما أن هذه القيادات في غالبها لا تمتلك مؤهلات القيادة، وغابت عن ممارساتها الأدوار المفترض أن تقوم بها أي قيادات لحركة إصلاحية أو تغييرية.

القيادة فن

جدير بالذكر أن: “القيادة” فن وموهبة يسبقها تدريب وتمرين ثم يعقبها تمحيص وتجربة تراكمية تستمر بسنوات مع تنميتها وتعاهدها بشكل دوري، وأكبر خطأ ترتكبه الحركة الإسلامية في كل مكان وزمان هو اعتقادها بأن كل من قرأ آية أو حفظ حديثا أو ارتقى على درجات المنبر أو تصدر للتدريس والتوجيه العام -مع العلم بأن حفظ العلم ونشره من أفضل القربات، وخير الناس أهل العلم- يصلح بأن يكون قائدا أمميا ما دامت الجماهير تصفق له من دون وعي، ولأجل هذا التصور الخاطئ اقتحم في باب الإدارة والقيادة من لم يخلق لها، فأفسد من حيث أراد الإصلاح، وجرَّ إلى الحركة الإسلامية متاعب ومآسي كانت في غنى عنها، وفي السنوات الماضية تمكن بعض الإسلاميين الوصول إلى مراكز متقدمة في جهاز إدارة الدولة السياسي، ولكنهم فشلوا فشلا ذريعا أو أُفشلوا بسبب قلة خبرتهم وضحالة معرفتهم في دهاليز الحكم وتشعباته، لأنهم اعتقدوا بأن هتاف الجماهير كفيل في أهليتهم لقيادة البلاد من غير خبرة وممارسة في كيفية إدارة الدولة، وإذا أمعنا النظر في أحوال الحركات الإسلامية في مصر والصومال وليبيا والمغرب والسودان وتونس وغيرها من الدول الإسلامية أو الحركات الإسلامية العاملة بين الجاليات الإسلامية في الغرب، ستجد أن أكثر أزمة ومشكلة تواجهها هذه الحركات هي “معضلة القيادة” فثمة خلل واضح في بنائها القيادي وفي قدرتها على صناعة قيادات جديدة راشدة تخطط للحركة وتشارك في تنميتها وتحقيق أهدافها، ولهذه المشكلات أثر جدي على واقعها الحاضر ومستقبلها القادم، أحد الأسباب الرئيسة في ذلك إهمال الحركة للنقد الذاتي وضرورة المراجعة الدائمة لخططها وآلياتها، وإهمالها الشديد في الوقت ذاته لجانب المحاسبة المستمرة لقيادتها، واختيارها بناء على مواصفات شخصية أفرزتها المحن والأزمات مثل عدد سنوات السجن والاعتقال والمطاردة والمواجهة والثبات، دون المؤهلات والصفات الموضوعية للقيادة العصرية الراشدة.

في هذا الصدد يجب أن ندرك أن تطور الحركة الإسلامية والتنظيمات عموما متوقف على نوعية قيادتها، فغياب القادة ذوي الرؤية الموضوعية الشاملة لواقعنا المعاصر وما طرأ عليه من متغيرات على الساحة المحلية والدولية وصراع المصالح الكبرى المتلاطمة فيه، جعل لتحرك الحركة الإسلامية ردود أفعال أو أفعال منفلتة غير محسوبة وغير مقدرة للعواقب، مما حرم العمل الإسلامي فرصة إحراز تقدم ملحوظ نحو هدفه النهائي.

يعد أيضا من مظاهر الخلل حرص قادة العمل الإسلامي على “صناعة الأتباع” الذين يحسنون التلقي والتنفيذ الفوري والإيمان بأوامر القائد وحكمته دون تعطيل ولا تأويل، وما يتبع ذلك من نزوع لتقديس القيادة وتصنيف المسلمين حسب درجة الولاء للتنظيم أو قيادته.

لذلك فإن “المرونة الداخلية” من أهم أسباب النجاح الحركي، وذلك بأن تكون الحركة قادرة على تغيير قيادتها بيسر، وبأسلوب مرن يفتح باب الصعود إلى القيادة والنزول منها بناء على معايير موضوعية لا شخصية، ودون انقطاع في المسيرة أو جمود في الأداء أو تمزق في الصف، لكن هذه المرونة لا تروق للقادة الذين يميلون إلى الاستبداد والهيمنة، فيُبقون تنظيماتهم في حال من التصلب الإجرائي يمكِّنهم من التحكم فيها، مع أن انعدام هذه المرونة هو أكبر ما عانت منه الحركة الإسلامية، حيث سادت البيعة مدى الحياة، وإطلاق يد القائد والتفويض له، وعجز القيادة عن تجديد شبابها وعن التكيف مع الظروف المتغيرة، ولذلك الحركة الإسلامية تحتاج إلى شخوص يطرحون الرؤى ويملكون القدرة على التفاعل مع الأحداث والمتغيرات.

والمراقب عن قُرب للمشهد الراهن سُيدرك أن أبناء مظلة الحركة الإسلامية يعيشون أسوأ أيامهم وأحلكها، لا بسبب قسوة المحنة، وتزايد بطش المستبد، ولكن لشعور تملك الجميع، أنه لا توجد قيادات حقيقية تملك إستراتيجية حقيقية مفعلة للتعاطي مع المشهد، فهي لا تملك سوى ترديد الأوهام.

المفترض أن القيادة الراشدة لا يظهر ثقلها وأهميتها إلا في لحظات شدة الألم والكوارث، بقدرتها على تنظيم الصفوف، ولملمة الجراح ومداواتها، والإعداد لإعادة الكر أو تغيير ووضع استراتيجية جديدة للتفاعل مع تطورات الأحداث وهذا ما باتت تفتقد إليه الحركة الإسلامية في عمومها.

إن القيادة التي لا تُدرك حجم الكارثة ولم تعد إلى تاريخ مضى وهو زهاء قرن، لتتعلم منه وتكتسب من خبراته، مفترض أن ترحل في صمت غير مأسوف عليها، والقيادة التي لم تتعلم من أزمات ومحن تاريخية سابقة لا أمل يرجى منها.

والحق يقال، فبرغم هذا الحكم الشديد والتقييم القاسي بخصوص الطبقة القيادية ما زالت الحظوظ قائمة والفرصة حاضرة، ولا تزال في صفوف التيار الإسلامي كفاءات وإبداعات وعبقريات وسمو أخلاقي وشهامة ومروءة، سواء في الرجال أو النساء، وخصوصا في شبابهم وطبقاتهم القيادية الوسطى والدنيا، كما أن طبقاتهم القيادية العليا في مختلف تنظيماتهم لا تزال تحتوي بقية باقية من ذوي المصداقية تكافح وتناضل بصبر واحتساب.

أمّا الحديث عن أهم ملامح القيادة الجديدة والوعي القيادي الجديد القادر على التفاعل والاستجابة للتحديات الجديدة فهو موضوع المقال القادم بإذن الله تعالى.

المصدر : الجزيرة مباشر