إيمان العوام .. حاضره ومستقبله

 

استمعنا جميعًا – نحن المصريين – كما استمع كثير من عباد الله في أرض الله، لمقطع الفيديو الذي ذاع وانتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي ظهر فيه الحاج عبدالعظيم مترددا: أيأخذ المال الذي جاءه من حيث لا يحتسب دون مشقة منه ولا تعب؟ أم يرده وليس في جيبه سوى خمسة جنيهات سيشتري به (طعمية) لأسرته التي تنتظر الإفطار ولا تدري ما لله فاعل بها في الغداء؟ ذلكم هو الذي يسميه العلماء: الابتلاء، ويعنون به الامتحان العسير، ذلكم هو الْمِحَكُ الذي يقدح شرر الإيمان ويشعل جذوة التقوى واليقين، وهل خُلِقت الدنيا بما فيها مِن خفض ورفع وجذب ودفع إلا لهذا الابتلاء؟ وهل هي إلا كما قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (الإنسان: 2)، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ) (هود: 7).

العبقرية الفذة

لقد كان مشهدا -على بساطته وتلقائيته- فَذًّا وعبقريا؛ وهل العبقرية الفَذَّة إلا القدرة على حلّ العُقَدِ وتفسير الْمُشْكِلِ وإذابة الصلب المتكلس من الأفكار والتصورات؟ ها هو الورع يتجلى كما النهار في موقف بسيط، ويسفر كما الفجر في لحظة خاطفة، ويتبدى كما البسمة الوردية في وجهٍ وصوتٍ ونَفَسٍ لا تشوبه أدنى شائبة من رياء أو تَصَنُّع، وها نحن نقرأ بلا أدنى تعقيد معنى التقوى فلا نحتاج لنفخ الصدور وإِحْبَال السطور، وها نحن جميعا نفهم الحقيقة ونتلقاها فتتفتح لها العقول والقلوب على السواء!

والذي يورثنا الغِبْطة والرضا هو أنّنا -إذْ نتملى هذا المشهد- نعلم علم اليقين أنّه متكرر، وأنّ الرحم الذي أنجب عبد العظيم أنجب الكثيرين من أمثاله، مِمَّنْ -رُبَّما- لأجلهم ولأجل أمثالهم من البسطاء الطيبين يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا أو يخر بعضها على بعض هدا؛ بسبب ما يقترفه العباد في حق ربهم وفي حق بعضهم على بعض، وأنّ بلادنا بها ألف عبد العظيم، قد أنبأ عنهم واحد منهم، هذا هو منشأ الغبطة والتفاؤل، وإلا لكان المشهد مورثا للكآبة والقنوط لندرته وغربة فاعله.

ذلكم هو إيمان العوام يا سادة يا كرام، فَلْتُحْرق الكتبُ ولْتُكْسر الأقلام، إذا لم تبلغ بأربابها ذلك المبلغ الذي بلغه ذلك العاميّ الساذج (الخام)، الذي ربما لا يفرق بين حرف الألف وخيال الحقل الذي يذُبُّ به عن زرعه الهوام، ذلكم هو إيمان العوام الذي تمناه الإمام، بعد أن طال به الخوض في المنطق والفلسفة وعلم الكلام، لقد ثبت عمليا ما قرره الألوسي في تفسيره نظريا عندما قال: “فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا، مشرف على التزلزل بكل شبهة، بل الإيمان الراسخ إيمان العوام، الحاصل في قلوبهم بتواتر السماع وبقرائن لا يمكن العبارة عنها” (روح المعاني 13/ 219 بتصرف بسيط).

الايمان الخلاق

تلك كانت وقفةً أولية سريعة؛ تقرأ الحدث قراءة عابرة، تمسح الواجهة دون أن تغوص في الأعماق، ووراء هذه القراءة قراءات، ووراء السؤال الأوليّ أسئلة وتساؤلات: من أين استمد العامّة هذا الإيمان التوّاق وذلك التُقَى الخلّاق، من أين استقوهما وهم الذين لم يَرِدُوا مجالس العلم ولا حِلَق الذكر ولا أروقة الأكاديميا؟ الإجابة بكل بساطة وبلا أدنى تعقيد: مِن الحياة العامّة، مِن الجو العام والمناخ العام والأثير العام، من الأسرة والمجتمع، ومن منابر الأمة العامّة، من أبٍ ينقل خبرات آبائه المؤمنين، وأمٍ ترضع أولادها مع اللبن اليقين، ومن عائلة تحفظ الحرمات وترعى العهود وتخشى الملام، من شيخ على منبره يقول ما يعرفه من الحق والخير والجمال بلا لفّ ولا دوران، من جيل ورث من الأجيال السابقة ما انتقل عبر الأزمان بقوة الدفع الأولى لهذا الدين العظيم.

وثمّ سؤال تثيره الفقرة السابقة، وهو سؤال القلق الذي ينتاب من يحيا في نعمة، ولشدة إدراكه لعظمتها يخشى فواتها وإدبارها: ذلكم هو الماضي وهذا هو الحاضر؛ فماذا عن المستقبل؟ وإذا كان الأمر بتراكم الأسباب، أو كما -عبر بيغوفيتش- أنّ دفء الليلة سببه شمس النهار السابق؛ فماذا عن الغد؟ ماذا لو خفتت شمس الأزهر -لا قدر الله- بفعل الضغوط الفجة والتدخلات الخشنة الغليظة؟ ماذا لو ظلت الخطب والدروس تمجيدا للسلاطين وتسبيحا بحمد الجبارة والملاعين؟ واستمرت الأنظمة في تكميم الأفواه الصادقة ومصادرة الحناجر المخلصة، ودفن الأقلام الحرة خلف قضبان السجون وفي غياهب المعتقلات؟ ماذا عسى أن يكون مستقبل دين العوام ونحن نرى الديايثة والمعربدين يحظون بالجوائز والألقاب ويتمتعون بالظهور والسفور ليقتدي بهم الجيل وينقل أخلاقهم وطباعهم العفنة إلى الحياة؟!

قتلة تحت العمائم

لقد كنّا وآباؤنا وأهلونا وأصدقاؤنا وجيراننا نستمع في إذاعة القرآن الكريم لأمثال عطية صقر وجاد الحق وعبد الحليم محمود والمراغي وشلتوت، ونشاهد الشعراوي ومصطفى محمود، فماذا بقي للناس اليوم؟ بقي قتلة تحت عمائم، وغربان في رياش حمائم، وكروش تطوف حول عروش، فهل سيكون دين العوام في الغد كما هو اليوم؟ لا أحب التشاؤم ولا أمّلُّ التفاؤل، غير أنّني لا أرى استمرار هذا الخير إلا باستمرار الأحرار من أبناء هذه الأمّة – وإنّهم لَكُثرٌ والحمد لله – في نضالهم ضد هذه الأنظمة، التي لم يعد يكفي أن نصفها بأنّها مستبدة وظالمة، بل لم نعد نجد في قواميس السياسة ما يمكن أن نصفها به.

ومن الخطأ الفاحش أن نركن إلى هذه المقولة المستهلكة: “شعب مصر مؤمن بطبيعته” تلك المقولة التي خدعتنا عن أنفسنا كثيرا، صحيح أنّ شعب مصر من الشعوب الطيبة قياسا على غيره، وصحيح أنّه درج منذ الفتح الإسلاميّ لمصر وتوالي الأئمة والدعاة والهداة من لدن الشافعي والليث وتلاميذ مالك إلى المراغي ودراز ومدرسة أبي زهرة، درج على صفة النزوع للخير والتجانف عن الشر والميل للفضيلة والإجفال عن الرذيلة، لكنّ هذا لم يكن لأنّه ذو طبيعة تميز بها عن خلق الله، وإنّما لما مرّ به هذا البلد من فعاليات علمية وعملية طبعت فيه هذا الطابع، هذه الفعاليات اليوم تنضب وتنزوي وتجفف منابعها؛ ليحل محلها السوء بكل صوره وأشكاله؛ فلا مناص من النضال الشريف لاستبقاء أو استدعاء التليد.

لسنا عاجزين إلا إذا شئنا لأنفسنا العجز، ولن نكون قادرين فاعلين إلا إذا شئنا ذلك لأنفسنا أيضا، فمرد الأمر إلى إرادتا التي خقلها الباري حرة وشاء لها أن تكون حرة، ولم يحملها حملا على الهدى والرشاد أو الغيّ والعناد، وإنّما كما قال عزّ وجل: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان: 3)، فهلا كنّا من الشاكرين؟! هلا شكرنا نعمة الله بالحفاظ عليها وحمايتها من الضياع والتبديد؟!

إنّ على كل إنسان منّا واجبات لا يجهلها إلا بسبب إعراضه عن تعلمها، ولا يغفلها إلا لأنّه يؤثر أن ينساها ويغفل عنها، ولا يتولى عنها ويعرض إلا في سياق التولي والإعراض عن الحق جملة، وإنّ المعرض عن هذه الواجبات لمعرض عن الحق جملة، ولو زينت له نفسه أنّه وجد العوض في سبحات يسبحها أو ثلاثيات يصومها أو سويعات يقومها، فكل هذا خير ولا شك، ولكن حتى هذا الخير لا قيام له ولا دوام ولا استقرار له ولا استمرار مع التجاهل والإعراض عن واجب “الدفع” وهذا هو المعنى الدقيق لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24)، فهذا هو الذي يحيينا ويجعل لحياتنا قيمة، وتكثر فيها الصور المشرقة الباهرة تلك.

واطمئن من كل قلبك -وليس هذا من عندي- فقد قال الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها) (البقرة: 286)، فلا تكلف نفسك إلا ما تطيق، لكن اعمل وتحرك وتعاون واقترب من الناس وتفاعل معهم، ولا تنأ بنفسك عن (وجع الدماغ!) إذ لو نأى الأوائل عنه لما وجدت بين جنبيك اليوم قلبا يوحد الله أو ينبض بالخير، فحيَّ يا صاح على العمل وحيّ على الأمل، والله معنا ولنْ يَتِرَنَا أعمالنا.

المصدر : الجزيرة مباشر