إعادة الاعتبار إلى المعجم من أهمّ السبل لتقويم اللسان العربيّ

لم تشهد مصنفات في علوم اللغة العربيّة ظلمًا كما شهدته المعاجم في تشويه مهمّتها وتقزيم وظيفتها وتهميش وجودها

لا يكاد يوجد أحد مرّ على المدارس العربيّة طالبًا ومتعلّمًا إلّا نالَ جرعة أو أكثر من الحديث عن أهميّة المعاجم في اللغة العربيّة، ومهمّتها وآليّة التعامل معها، وطريقة البحث فيها، غير أنّ هذه الجرعات الخجولة لا تتجاوز الحديث عن وظيفة المعاجم في معرفة معاني الكلمات، وضرورة الرجوع إليها عند البحث عن معنى كلمة غريبة أو مُشكلة.

عندها تغدو مهمّة المعاجم في نظر عامة الناس الكشف عن معنى كلمة اصطدمنا بها في طريقنا، أو لفظ ارتطم بنا ونحن نقرأ أو نكتب أو نسمع.

 المعاجم ترثي حالها

وهكذا أصبحت المعاجم مركونة على رفوف المكتبات، ومنسيّة في غياهب الهواتف الجوّالة بعد أن اقتصرت ماهيتها على تطبيقات تُزار وتُغادَر على عجل عقب قراءة معنى الكلمة المُرادة.

وليت شعري لو علم الفراهيدي أنّ هذا ما سيحلّ بكتابه “العين”، ولو تخيّل ابن منظور أنّ هذا هو مآل “لسان العرب”، واستشرف ابن فارس مصير “مقاييس اللغة”، ولو خطر ببال الجوهري أنّ “الصحاح” سيغدو يتيمًا هكذا، وكذلك لو تخيّل الفيروزآبادي انحسار “القاموس المحيط” بهذا الشكل المهين، لقطّعوا أصابعهم قبل أن تُقدم على كتابة هذه المصنّفات النفيسة، ولعلّ عظامهم تصطكّ في قبورها مع كلّ حصّة دراسيّة يشوّه فيها المعلّمون مهمّة المعاجم ووظيفتها.

لم تشهد مصنّفات في علوم اللغة العربيّة ظلمًا كما شهدته معاجم اللغة في تشويه مهمّتها وتقزيم وظيفتها وتهميش وجودها في حياة الإنسان.

ولسنا هنا في صدد الحديث عن إعادة الاعتبار إلى المعاجم في المناهج الدراسيّة، فهذا طموح كبير ومطلب عظيم وإن كان صعب المنال، لكن من المهمّ للغاية إعادة الاعتبار إليها على المستوى الفردي وعلى مستوى الثقافة العامّة.

كيفَ نتعامل مع المعجم؟

إنّ أهمّ ما صُنّفت المعاجم لأجله هو تنمية الثروة اللغوية عند المتلقّي وبالتالي تنمية الذائقة وتفعيل القدرة التعبيريّة، ومن ثَمّ تحقيق الصلة الوثيقة بين المرء ولغته بوصفها أحد أهم ركائز هويّته وأعمدة شخصيته الحضاريّة.

فالمعاجم إنّما صُنّفت لتُقرَأ على مَهل مثل قهوة محمود درويش، ولِتُقرأ كما غيرها من الكتب النفيسة ابتداءً بالمقدّمة وانتهاءً بالخاتمة، لا استلالًا ولا اجتزاءً ولا انتقاءً عند حاجة عابرة فقط.

وفضلًا عن الثروة اللغويّة التي تحقّقها هذه الطريقة في قراءة المعاجم، فإنّها تفتح للمرء نوافذ تطبيقيّة حيّة على علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، بطريقة لا جفاف فيها ولا إيحاش ولا إملال.

ومع المواظبة على هذه الطريقة في قراءة المعاجم ـوإنْ قلّ القدْر المقروءـ تتشكّل الصداقة بين المرء ولغته، هذه الصداقة التي نفتقدها في علاقتنا مع العربيّة اليوم، والتي تجعل المرء يتذوّق اللغةَ تذوّقًا يستشعر حلاوتها وطلاوتها، بعيدًا عن علوم الآلة فيها التي لا تزال تبتعد بالمتلقّي شيئًا فشيئًا عن روح اللغة وكنهها العظيم.

قرِّرْ أن تجعل لك وِردًا يوميًّا ثلاث صفحات من معجم تختاره، تقرؤها جهرًا، واثبت عليها مهما شعرت في بداية أمرك بضيق الصدرِ وتسرّب الملل، وبعد شهر واحد فقط ليس أكثر من المواظبة ستستشعر الفرق في إقبالك، والفرق في زادك من اللغة.

ما أحوجنا إلى التصالح مع المعجم بعد هذه الجفوة الطويلة، ودخول اللسان العربيّ في صحاري التيه والتلوّن، وويح نفسي إذا كان ابن منظور المتوفّى سنة 711هـ (1311م) قد علّل تصنيفه “لسان العرب” بتسارع العجمة إلى اللسان العربيّ وافتخار العرب بغير لغتهم، إذ يقول: “وذلكَ لِما رأيتُه قد غلب، في هذا الأوان، من اختلافِ الألسنةِ والألوان، حتّى لقد أصبحَ اللحنُ في الكلام يُعدُّ لحنًا مردودًا، وصارَ النطقُ بِالعربِيّةِ من المعايب معدودًا. وتنافسَ الناسُ في تصانيفِ الترجماناتِ في اللغَةِ الأعجمية، وتفاصحوا في غيرِ اللغةِ الْعربيّة، فَجمعتُ هذا الْكتابَ في زمنٍ أهلُهُ بِغيرِ لغتِهِ يفخرون، وصنعتُه كما صنعَ نوحٌ الفلكَ وقومُه منهُ يَسخَرون”.

وإلى مثل هذه الغربة اللغويّة أشار الفيروزآبادي المتوفّى في اليمن سنة 817هـ (1415م) في مقدّمة “القاموس المحيط” إذ يقول: “وهذهِ اللغةُ الشريفةُ، التي لم تزلْ ترفعُ الْعقيرةَ غِرِّيدةُ بانِها، وتصوغُ ذاتُ طوقِها بقدْرِ القدرةِ فنونَ ألحانِها، وإِنْ دارت الدوائرُ على ذوِيها، وأحنّتْ على نضارةِ رياضِ عَيْشِهِم تُذويها، حتّى لا لها اليَومَ دارسٌ سوى الطللِ في المدارسِ، ولا مُجاوِبَ إِلّا الصدى ما بينَ أعلامِها الدوارِسِ، ولكنْ لم يتصوّحْ في عصفِ تلكَ البوارِحِ نَبْتُ تلكَ الأباطحِ أصلًا ورأسًا، ولم تُستلَبِ الأعوادُ المُورِقةُ عن آخرِِها، وإِن أذْوَتِ الليالي غراسًا، ولا تتساقطُ عن عَذَباتِ أفنانِ الألسنةِ ثمارُ اللسانِ العربيِّ، ما اتّقتْ مُصادمةَ هُوجِ الزعازعِ بمناسبةِ الكتابِ وَدولةِ النبِيِّ”.. فماذا عسانا نقول اليوم؟!

 

المصدر : الجزيرة مباشر