في الصين.. إذا صادفت محمدا فاحذر الذئب المحارب!

زهاو لي جيان.. محمد زهاو سابقا

يبحث المتابعون للشخصيات المهمة على تويتر عن أسباب عدم تواصل الوزير المفوض في سفارة باكستان السابق (محمد زهاو لي جيان) مع جمهوره الواسع في العالمين العربي والإسلامي، بعد أن أصبح متحدثا رسميا باسم وزارة الخارجية الصينية. يبدي بعض البسطاء أسفهم لانقطاع صلتهم بالرجل الذي عمل سنوات طويلة في باكستان منذ أن شغل منصب سكرتيرا ثالثا بالسفارة الصينية في إسلام أباد حتى وصل إلى مرتبة وزير مفوض وسفير، قبل مغادرته العام الماضي لتولي منصبه المهم الجديد.

دفع الغضب بعض المتابعين -وخاصة من باكستان- إلى تجاهل الرجل الذي أغلق تويتر ونسي أصدقاءه، وعاد إلى اسمه الحقيقي (زهاو لي جيان) بل أصبح من أعتى “ذئاب الحرب” في الصين الذين يبررون عمليات التطهير العرقي التي تجري ضد المسلمين وبخاصة الإيغور. وعبّر أحد المشاركين في حملتهم على تويتر عن استيائه وغضبه من ارتماء الجمهور في أحضان أمثال زهاو لي جيان “حتى لا ينتهي بهم المطاف إلى مقبلات في حساء الخفافيش على الموائد الصينية”.

عبّرت الكلمة عن الوجع الذي يصيب قلوب الناس الطيبين من تجاهل من يحبّونهم، حيث احترف (زهاو لي جيان) مشاركتهم في المناسبات الدينية، ليس على طريقة المتحدث باسم جيش الاحتلال الصهيوني أفيخاي أدرعي فحسب، بل لكونه حاملا لأطهر اسم لدى المسلمين. وظل (زهاو) يشعرهم بأنه مسلم، بما كان يبثه من أحاديث نبوية وأقوال دينية ودعوات مأثورة تدخل السرور على قلوبهم، كما يفعل السفير الصيني الحالي في باكستان، الذي يزور الأضرحة والمساجد.

في معبد بوذا

استمرار الجدل حول أمر فات عليه نحو العام، دفعني إلى تذكّر الدهشة التي أصابتني عندما زرت بيجين مطلع القرن الحالي لأول مرة. فقد خصصت “جمعية الصداقة الصينية العربية” شابا يتحدث العربية بطلاقة لمرافقة وفدنا في جولة طويلة شملت شانغهاي، وبيجين مرورا بمدينة هانغتشو ذات البحيرات وجبال الشاي الساحرة.

حرص الشاب على تقديم نفسه باسم “ماجد” مع تعريفنا بأنه تعلم العربية في سوريا، ولولعه بأهلها، يرغب في الزواج من دمشقية بما يعمق احترامه للأخلاق العربية والإسلامية.

أحاطنا “ماجد” دائما بالمأكولات الإسلامية التي تناسبنا، في وقت كان يعز أن تجدها في هذه المناطق بسهولة، لدرجة دفعتني إلى حوار مطول معه عن حرية الأديان في الصين، ظننت خلاله أنه مسلم. فاجأني الشاب حديث التخرج، بعد صعود الجبل وزيارتنا لأكبر معبد لـ”بوذا” في الصين، بحرصه على حرق البخور والسجود له باعتباره الإله العظيم. هنا اندهشت وقلت له ألست مسلما؟! قال: ولا شيوعيا، لذلك لم أعيّن بوزارة الخارجية أسوة بزملائي الذين يجب أن يؤمنوا بالشيوعية ولا ينتمون لأي دين سماوي أو عقيدة أرضية، فأنا أدين بعقيدة الأسلاف وهي البوذية. كانت هذه البداية هي التي دفعتني إلى الكتابة عن عودة الأديان في الصين، التي نشرتها أكبر دار نشر صينية للغات الأجنبية التي تصدر مجلة “الصين اليوم” حيث عملت بها نحو عقدين، في بداية عصر انفتاح بيجين الثقافي والديني على العالم، والذي عطله الرئيس الحالي شي جين بينغ.

أصل الخداع

بالعلاقة الطويلة والزيارات الكثيرة إلى الصين، التي شملت جامعات وبيوت أصدقاء، عرفت أصل الخداع الذي نتعرض له دون أن ندري. فالصيني قبل حصوله على اسمه، يمر بعملية معقدة للغاية قبل ولادته. فرغم أن الدولة شيوعية وتحارب الأديان والموروثات الشعبية القديمة، إلا أن الأسماء تكشف عن مدى ارتباط الصينيين بهذه الجذور. فعادة يحمل الشخص اسم العائلة أولا، ثم يوضع اسم الأب في الوسط واسمه يأتي متأخرا.

وخوفا من أن تتوه شخصيته في ظل طغيان الميراث العائلي، لا بد أن يكون اسمه مميزا، لذلك تجد مئات الملايين في الصين اسمهم (ليو) و(لي) للتعبير عن أنه سيكون الفائز أو الأول أو المقدام، وتكاد ترى في الصين ذات المليار و400 مليون نسمة أسماء معدودات. ويظل لقب العائلة للفخر والتعبير عن الاصالة، لذلك يكون الاسم للجد الأول، وكلما كان قديما يكون الأعلى نسبا، ويمكن أن يُقطع الاسم إذا تقلد أحد الأجداد منصبا عاما أو نال نيشانا يفتخر به الأحفاد.

مع ذلك يظل تحديد اسم المولود مرهونا بالتقاليد الدينية، حيث يذهب الأهل إلى العرافين في المعبد، ليتدارسوا موعد الولادة وارتباطها بحركة القمر، والسنة الصينية التي سيولد بها وكونه ذكرا أم أنثى، ليختار العراف الاسم المناسب، بما يضمن له ألا يكون شقيا ولا محروما!

يحمل الصيني أسماءً يعدّها الأجانب معقدة، ومع تشابه الأسماء لدرجة التطابق في عشرات الملايين من الحالات، يطلق الصينيون المتعاملون مع الأجانب أسماءً تناسب المتحدث معهم. ولا تأتي الأسماء هذه المرة من العائلة أو الشخص نفسه، بل من معلمه في الجامعة أو رئيسه في العمل. فقد رأيت في جامعة بيجين الأساتذة يمنحون كل طالب اسما لا يفارقه مدى الحياة إلا لأسباب أمنية أو نفعية. فينظر الدكتور في وجه الطالب واسمه الصيني، ليعيطه مرادفا له، فإذا لم يجد يتفرس وجهه، فيعطي له اسما ذا صفة مثل جبار أو أمين أو بسام أو فيحاء وفائزة ونور. وعندما يفضل بعض الأساتذة طلابا يمنحونهم أسماءً عربية وإسلامية كبيرة، مثل عيسى وحسن وتيمور. ومن المفارقات أن زميلة صحفية أطلق عليها أستاذها اسم (فكيهة) لأن وجهها باش ضاحك، وعندما جاءت إلى مصر، فوجئت بأن كل من يتعرف عليها يضحك بسخرية شديدة. وعندما عملت معي شكت لي أمرها، وسألتني لماذا يضحك الناس كلما عرّفت اسمي بهذه الطريقة، فشرحت لها الأمر بأنه اسم شعبي قديم، فسألتني أن أمنحها اسما جميلا، وعندما خيرتها بين أسماء عدة رفضت وقالت: أنت الآن بمنزلة معلمي فلا بد أن تختار لي الاسم، فأطقت عليها اسم (مَي) وهو أمر أسعدها كثيرا.

وكذلك نجد أسماء غريبة يطلقونها على المتحدثين بالإنجليزية أكثر اضحاكا، مع ذلك لم نجد أي صيني يُطلق عليه اسم (محمد) في الجامعات أو من الأسر، إلا إذا كان هذا الرجل مسلما حقيقيا، مثل المؤرخ المسلم الشهير (محمد مكين) الذي ترجع أصوله إلى مسلمي الهوى الصينيين، وكان عضوا مؤسسا للجمعية الإسلامية في الصين، بعد عودته من الدراسة بمصر في أربعينيات القرن الماضي، والذي حاول “الذئب المحارب” التشبه به لسمعته الطيبة بين المسلمين.

فالحزب الشيوعي يفرض على المسلمين أسماءً صينية، ورغم حالة التسامح النسبي في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا أن الأسماء العربية والإسلامية تسجل فقط في المساجد وتَصدُر شهادات الميلاد وبطاقات الهوية وجوازات السفر بالأسماء الصينية فقط، بينما يظل الاسم العربي للشهرة بين الأسرة والأصدقاء.

مع ذلك، أصدر الحزب الشيوعي قرارا بتحريم إطلاق اسم “محمد” تماما في الصين ولو للشهرة، لذلك كان غريبا أن يطلق (زهاو لي جيان) على نفسه اسم “محمد زهاو” كما ذكر على حسابه في السوشيال ميديا، إلا عبر أوامر عليا بذلك بهدف خداع المسلمين. فالحزب لم يحرّم اسم (محمد) منذ عام 2017، أثناء وجود زهاو لي جيان في باكستان وادعائه بأنه (محمد زهاو) فقط، بل جعل من يحمل هذا الاسم إرهابيا ويطلب إلقاء القبض عليه بالداخل أو يلاحقه في الخارج عبر الإنتربول.

التطهير العرقي

وتُعد حملات التطهير العرقي التي يشنها الحزب الشيوعي على المسلمين الإيغور مثالا على الحرب الشعواء التي يديرها النظام الصيني ضد أصحاب الأديان عامة والمسلمين خاصة، لمجرد أنهم القبائل الوحيدة داخل الصين التي تطلق أسماء غير صينية الأصل على أبنائها، إما عربية أو تركية أو إسلامية. ويضع الحزب الشيوعي نحو مليوني مسلم في معسكرات يدعي أنها للتثقيف والتربية على الطريقة الصينية، بينما يجبر المحتجزين داخلها على تغيير معتقداتهم الدينية وأسمائهم بالقوة، بجانب إجبارهم على تناول لحم الخنزير والخمور، للتأكد من تخلصهم من الثقافة الإسلامية بحسبانها “تشجع على الروح الانفصالية لدى سكان المنطقة عن الصين”.

لم يأت تجاهل المتحدث الرسمي الصيني لأصدقائه المسلمين من فراغ، فقد صدرت لهم الأوامر بعدم تسمية أي صيني بأسماء غير صينية الأصل، في إطار إعلاء الروح القومية التي يدفع بها الرئيس شي جين بينغ. ولم يعد هذا قاصرا على المسلمين فقط بل امتد إلى الأسماء المسيحية التي كانت تطلق على بعضهم بالإنجليزية أو الفرنسية والإسبانية، من أساتذتهم في الجامعات أو أتباع الكنائس المعدودة في الصين، أو المسؤولين عن أسواق السلع، بهدف جذب المشترين الأجانب كما بسوق الحرير في بيجين، حيث يحرص البائعون على وضع الصلبان حول أعنقاهم لإغواء من يدفعون بالدولار واليورو، أو من يرغبون في التعامل مع شركات دولية، بينما لا علاقة لهم بدين أو معرفة أي شيء عما يحملونه من أسماء أو صلبان أو علامات دينية أخرى.

فالأمر بالنسبة للعوام يأتي في إطار إنجاز الأعمال والمصالح (البيزنس) أما بالنسبة للحزب الشيوعي وشبابه من “ذئاب الحرب” فيعتقدون أنها بداية الانحلال الثقافي والانفلات السياسي، وأحد مظاهر الانفصال عن الوطن. وقد أصبح (زهاو لي جيان) من الجيل المؤسس لدبلوماسية “الذئب المحارب” التي روجت لها السلطات الصينية مع بداية انتشار جائحة كوفيد-19، التي تظهر العداء لكل من يعارض السياسة الصينية، أو ينتقد أداءها في الداخل أو الخارج.

ويوظف الذئاب المحاربون كل أجهزة الدولة وأموالها وطاقاتهم، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الدولي والمحلي، لمهاجمة من يرونهم خصوما أو مداهنة من يعتبرونهم أنصارا ولو استشهادا بالأحاديث النبوية وزيارة المساجد. فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، لذلك تجدهم يستخدمون تويتر وفيسبوك وإنستجرام، بينما هذه الوسائل ممنوعة داخل الصين، باستثناء تلاميذهم في الداخل الذين ينشرون رسالتهم في العالم عبر أصوات وأقلام مدفوعة الأجر. ولهذا الحديث بقية.

 

المصدر : الجزيرة مباشر