مفارقات العرب.. الأسد “في القمّة” والمقاومة الفلسطينية “إرهابيّة”!

بعد غياب.. إعادة الاعتراف بنظام الأسد وتجاهل القضية الفلسطينية

قبل أسبوعين، احتفلت الأمم المتحدة باليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، الذي خصّصت له 29 نوفمبر/تشرين الثاني من كلّ عام، منذ دعوة الجمعية العامّة عام 1977 إلى اعتماده يومًا عالميًّا.

ويأتي الاحتفال هذا العام، بعد أيّام من اعتماد الحكومة البريطانية قرار وزارة الداخلية إدراجَ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على قائمة “المنظمات الإرهابية” المحظورة في المملكة المتحدة، وهو ما يستلزم إجراءات فعّالة بعد تصديق مجلس العموم على القرار الجائر.

لكنّ صمتًا عربيًّا ودوليًّا مُتعمّدًا كان واضحًا، سواء بإهمال المشاركة في الاحتفال باليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، أو بعدم التعقيب على قرار وزيرة الداخلية البريطانية تصنيفَ المقاومة الفلسطينية “إرهابًا” تغازل به سلطات الاحتلال.

موقف المتفرّج

جامعة الدول العربية التي تبدو دائمًا كالمقبورة حيال القضية الفلسطينية، لم يكن لها أيّ موقف، لا احتفالًا باليوم الدولي المعتمد من الأمم المتحدة، ولا تعقيبًا على القرار البريطاني الجائر. وبالطبع، اتّخذت الأنظمة العربية كافّة موقف المتفرّج حيال أبسط الأمور المتعلّقة بالحدث، حتّى إبداء القلق أو عبارات الشجب والإدانة لم تعد من أدبيات هذه الأنظمة، ولا الجامعة العربية التي جعلت ضمن جدول أعمال قمّتها المقبلة مناقشة دعوة بشار الأسد، لإعطائه شرعية عربية ودولية، بعد سلسلة زيارات ومباحثات من دول عربية أرادت منحه قُبلة الحياة على حساب الشعب السوري المقهور. وتشير تقارير إلى أنّ بلدانًا عربية عدّة حسمت قرارها بدعوة بشار إلى حضور القمّة، بينها دول كبرى وخليجية، كانت تدعم المعارضة السورية لإسقاطه منذ العام 2011.

هكذا تشهد القضية الفلسطينية ومأساة الشعب السوري حالة خذلان عربية غير معهودة، حتّى المقاومة -التي كان يتمسّح بها بعض الحكّام لتحسين صورة الأنظمة شعبيًّا وبينهم بشار الأسد القابع في محور الممانعة المزعوم- لم يكن لها أيّ تعقيب.

العجيب

تناقضات المجتمع الدولي بشأن القضية الفلسطينية مُستوعَبة منذ قرار التقسيم عام 1947، فلا حاجة لتبرير الموقف الغربي الداعم دائمًا للاحتلال الذى زرعته بريطانيا وحلفاؤها بعد الحرب العالمية الثانية، وورثتها الولايات المتحدة في النسج على المنوال ذاته.

لكنّ العجيب هو الموقف العربي الذي لم يمرّ إعلامه -ولو مرور الكرام- على ذكرى اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وهي مناسبة مُعترَف بها دوليًّا، ولا يوجد ما يُجرّمها إن جرّمت الدول الكبرى حقّ الشعب الفلسطيني في المقاومة. ويبدو كأنّ العرب فهموا أنّ حقّ الشعب الفلسطيني مُجرَّم في كلّ الأحوال، مقاومًا أو مستسلمًا، مناضلًا أو مفاوضًا، مع أنّ قرارات الأمم المتحدة جميعها تعطى الشعوب الحقّ في التحرّر والاستقلال وتقرير المصير.

ودعونا نذكّر بهذه الحقوق التي يبدو أنها ستُنسى عمدًا، وتسقط من ذاكرة الشعوب العربية التي يسعى حكّامها إلى التطبيع ووأد القضية الفلسطينية، وطمس الحقيقة أمام أجيال مقبلة، ليكون التحرّر الوطني والمقاومة الفلسطينية للاحتلال إرهابًا، والاستسلام والانبطاح سلامًا، وهذا أبعد ما يكون عمّا أقرّه المجتمع الدولي، فميثاق الأمم المتحدة في مادّته رقم 51 لسنة 1945 ينصّ على “شرعية حقّ المقاومة للشعوب من أجل الدفاع عن نفسها إذا داهمها العدوّ بقصد احتلالها”.

كما أنّ قرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة رقم 1514 لسنة 1960 يقضي بحقّ الشعوب المُستعمرَة والمحتلّة في تقرير مصيرها بكلّ السبل، وقد أقرّت في عشرات القرارات بوقوع الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال, أمّا وصف المقاومة بالإرهاب، فإنّ قرار اللجنة الخاصّة بموضوع الإرهاب التي شكّلتها الأمم المتحدة عام 1989 نفى تلك الصفة عن المقاومة الفلسطينية، وبخاصّة حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وكذلك نصّ إعلان جنيف بشأن الإرهاب على إقرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة بأنّ “الشعوب التي تقاتل ضدّ الهيمنة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي وضدّ النظم العنصرية لها الحقّ في ممارسة تقرير مصيرها، والحقّ في استخدام القوّة من أجل تحقيق أهدافها، ومثل هذه الاستخدامات الشرعية للقوّة يجب عدم خلطها بأفعال الإرهاب الدولي”.

الصادم

وبعيدًا عن إثبات المُثبَت وإحقاق الحقّ، فإنه من الصادم الواقعُ الذي تعيشه الأنظمة العربية حاليًّا، فهو غير معهود في تاريخ الأمّة، حتى في عصر ملوك الطوائف. فمنذ عَقد واحد، كنا نقول إنّ الحكّام العرب المستبدّين يتاجرون بالقضية الفلسطينية، يشجبون ويندّدون ويهتفون ويخطبون، ثمّ في الكواليس يبيعون سرًّا حقّ الشعب الفلسطيني إرضاءً للهيمنة الأمريكية والغربية التى تحمى عروشهم. لقد كانوا يحسبون بعض الحساب للشعوب الصاخبة، ذرًا للرماد في العيون.

أمّا اليوم، فقد ابتُلينا بالمُطبّعين الجدد من المستبدّين الذين يوصفون بحكّام ما بعد الربيع العربي، فهم على غير سابق عهد أسلافهم، فحتّى المزايدات والخطب الرنّانة لا يقدرون عليها، وإعلامهم يتعامل مع القضية الفلسطينية من منطلق إرضاء الاحتلال الصهيوني، وتطبيعهم بعد وصول دونالد ترمب إلى سدّة الحكم في الولايات المتحدة بات على المكشوف، وبعد رحيله خاسرًا فترة ولايته الثانية، لا يزالون على عهده مخلصين. وما قرار بريطانيا الأخير إلا دليل دامغ على التماهي معه بشأن تصنيف المقاومة إرهابًا، فأرامل ترمب أكثر إخلاصًا له اليوم من أصدقائه الصهاينة في تلّ أبيب.

ولك أن تسأل، لماذا لم تعد القضية الفلسطينية حاضرة على الساحة العربية رغم كثافة الأحداث؟ حتّى الحرب الأخيرة على غزة، وزخم التعاطي الشعبي العربي معها، الذي أثبت أن الشعوب لا يزال قلبها ينبض، تمّ تجريده سريعًا والالتفاف عليه بتجميد ملفّيْ إعادة الإعمار وتبادل الأسرى. ولك أن تسأل أيضًا، لماذا تصمت الغالبية من الأنظمة العربية على قرار بريطانيا تصنيف المقاومة الفلسطينية إرهابًا دون أيّ بيان أو تعقيب؟

بركان خامل

لعلّ الأنظمة القادمة على ظهور الثورات المضادّة، تظنّ أن المعركة شعبيًّا حُسمت أو أُجّلت بعدما تعرّضت الثورات العربية لانتكاسة، وأنّ الشعوب كُسِرت وخسرت وتعيش حالة الهزيمة والخوف. ولعلّ هذا في ظاهره صحيح، لكنّ وقائع الأحداث تثبت أنّ الحجم الزائد من ثقة هذه الأنظمة، وتعاملها مع الشعوب والقضية الفلسطينية باستهتار، وعدم احترام مشاعر الجموع ظنًّا منها بأنّ آلة الإعلام التطبيعية نجحت في تحييد الشعوب واستمالتها، وأنّ أدوات القمع والبطش جعلت الأمور تحت السيطرة، فهذا كلّه دليل على قّلة خبرة الأنظمة الحاكمة، وعدم قراءتها الصحيحة للأحداث وطبيعة الشعوب.

ولعلّ الأيام المقبلة ستكون لها ردود أكثر وضوحًا، فمؤشّرات الأحداث تنبئ بأنّ ثمّة بركانًا خاملًا يوشك أن يثور، فمِن المُحال بقاء الحال، والشعوب قد تمرض لكنّها لا تموت، والأفكار لا تُقتل ولا تُسجن لأنها أبديّة، ولها أجنحة وتطير، وغدًا تغرّد العصافير.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر