تحويلة أمالي بهنسي.. عندما تتغير المصائر

لحظة فارقة في حياة مواطن عادي يسكن في بدروم تحت الأرض بمنطقة مصر القديمة بجوار مجمع الأديان والكنيسة المعلقة وكنيسة أبي سرجة، وهو مسيحي اسمه حلمي عبد السيد، يعمل عامل تحويلة (محولجي) في السكة الحديد.

يجيد كتابة الزجل وأغلبه يتغنى بحب الوطن، ولديه طفلة ذات إعاقة وطفل يحلم أن يكون ضابط شرطة. هكذا هي البداية، لكن النهايات تحمل مآسي أغرقت أحلامه.

محطة السكة الحديد التي يعمل بها حلمي نقطة التقاء بينه وبين ضابط ترحيلات للسجناء السياسيين إلى سجن الواحات الشهير، وفي إحدى الترحيلات يكتشف الضابط هروب معتقل سياسي.

لا يجد الضابط بديلا سوى أن يأخذ حلمي مكان حسين محمود المعتقل الهارب أو الغائب، ليتحول مصير الرجل البسيط العامل الحالم إلى سياسي يريد قلب نظام الحكم!

لم يكن هذا هو المصير الأول للتحوّل بين أبطال العمل السينمائي الوحيد، الذي أخرجه أمالي بهنسي قبل رحيله بثلاث سنوات، بعد أن ساعد في إخراج 46 عملا سينمائيا لكبار المخرجين.

في المعتقل نكتشف أن عددا من المعتقلين المتهمين بقلب نظام الحكم سُجنوا بمحض الصدقة، فهذان رجلان قادمان من بورسعيد إلى دمياط في رحلة تجارية، وعند عودتهما يشترون جوال أرز.

يتحوّل الأرز في محاضر أمن الدولة إلى سلاح، وجوال الأرز إلى جوال سلاح، ويتحوّل الرجلان إلى معتقلَين سياسيَين في لحظة كارثية على حياتَيهما.

يُضطران بفعل التعذيب إلى الاعتراف على آخرين أبرياء، لا ذنب لهم سوى أن المتهم البريء تذكّرهم تحت وطأة التعذيب، مثلما غيّرت التحويلة مصير بريء لمجرد استكمال المحضر، وليُثبت ضباط الأمن والترحيلات والسجون أنهم الأكثر حبا لمصر والحرص على النظام والسلطة، وليس المواطن العادي الذي لا يمثل سوى رقم في دفاترهم.

وفي المعتقل مطرب شعبي وطبّال يعملان في ملهى ليلي، يُلقى القبض عليهما بالصدفة أيضا (كمالة عدد)، والتهمة أنهما من أصحاب الأغاني الثورية والتحريض على النظام، بعد تأويل الكلمات، ليظل الضباط هم الحريصين على مصلحة النظام حتى تحيا مصر!

حلمي المواطن البسيط لا يقبل تهمته ويعترض عليها، ويتعرّض للتعذيب ثم للترحيل إلى مستشفى الأمراض العقلية (المجانين) في محاولة لإسكاته.

في المستشفى يكتشفون أنه عاقل فيعيدونه إلى المعتقل، وحينما يطلب الضابط من المعتقلين المظلومين الهتاف باسم الوطن، يهتف حلمي:

  • تحيا مصر وتحيا تحيا

تحيا مصر الكل قال

  • تحيا مصر في المصانع والمزارع والجبال

بس انتو سيبوها تحيا وهي تحيا وتبقى عال

المعادلة في التحويلة

يبدو أمالي بهنسي -الذي رحل عن عمر 53 عاما بعد فيلمه الوحيد (التحويلة) إنتاج 1996، والمأخوذ عن رواية (عامل التحويلة) للأديب الصحفي وجيه أبو ذكرى- متأثرا بفيلم (البريء) من إخراج عاطف الطيب، عن قصة وحيد حامد، الذي عمل فيه بهنسي مساعدا للمخرج، إذ إن أجواء الفيلمين قريبة جدا، وكذلك الحكاية عن المعتقلين السياسيين.

اختلفت الروايات، فالبطل الذي يفيق عند عاطف الطيب هو العسكري الذي يكتشف كذب رواية أعداء الوطن الممولين من جهات أجنبية، إذ إن بينهم أستاذه الذي علّمه حب الوطن وأهمية خدمته والدفاع عنه، فيصرخ في وجه القائد أن هذا المُعلّم لا يمكن أن يكون من أعداء الوطن.

أما المعادل في فيلم (التحويلة) فهو ضابط شرطة لا يقبل الظلم ويحاول تنفيذ صحيح القانون، ويتسبب التزامه بالعدالة والقانون في نفيه إلى سجن الواحات.

هناك يكتشف وجود مظلومين بالفعل في السجن، وعندما يحاول مساعدتهم يتحول إلى سجين معهم، كما حدث في فيلم (البريء) عندما سُجن العسكري مع مُعلّمه المعتقل، سُجن أيضا الضابط الباحث عن العدل مع المعتقل في فيلم (التحويلة).

تتصاعد الأحداث عندما تصل المعلومات إلى قيادة في وزارة الداخلية، تتحرك لإنقاذ الضابط والمعتقلين المظلومين، ويتحول مصير الضابط أيضا من متهم إلى شهيد دفاعا عن الحق بيد ضابط التعذيب.

النهاية في (التحويلة) تختلف عن نهاية (البريء) فبينما يطلق عسكري البريء صرخة اعتراض ويُصوّب الرصاص على قائد السجن، تمتزج دماء ضابط الشرطة (بطل فيلم التحويلة) المدافع عن الحق بالمواطن المظلوم حلمي، ليسري الدم في النهر، دماء المصريين دفاعا عن الحق.

النهاية في الفيلمين ربما تعبّر كلتاهما عن وجهتي نظر مُخرجَيْهما، فعاطف الطيب يرى الثورة والرصاص بداية، وقد أكد هذا في فيلمه (كتيبة الإعدام)، بينما يرى أمالي بهنسي في فيلمه الوحيد أن هناك مِن النظام مَن يستطيع أن يغيّر واقع الفساد والظلم.

تأثير عاطف الطيب

أمالي بهنسي خريج معهد السينما، شارك عاطف الطيب في إخراج أربعة أفلام، هي: (أبناء وقتلة) و(كشف المستور) و(ضد الحكومة) و(البريء).

وقد وضح تأثير الطيب على بهنسي في تجربته الأولى، من حيث الرواية التي تحاكي فيلم (البريء) في الموضوع أو الأجواء.

أيضا فكرة أن السياسيين هم أعداء الوطن، وأنهم ممولون وخونة، وتحركهم أيادٍ أجنبية للتخريب وإيقاف مسيرة تقدّم الوطن وتهديد استقراره وأمنه لصالح الأعداء.

يبدو أننا أمام قائمة اتهامات دائمة عبر العصور، معظمها ترددت في هذه النوعية من الأفلام مثل (إحنا بتوع الأتوبيس) و(أمهات في المنفى). وفي فيلم التحويلة هناك إشارة عابرة لفكرة المفكرين أو السياسيين الذين يتحولون إلى معتقلين في مستشفى الأمراض العقلية حتى يتخلص النظام منهم.

تحويلة وجيه أبو ذكري حوّلها أمالي بهنسي من مجرد مكان عمل لبطل الرواية الذي يتم اعتقاله صدفة، إلى تحويل لمصائر عدد من أبطال الفيلم المعتقلين بالصدفة.

هؤلاء الضحايا الذين يأتي بهم حظهم أو نصيبهم في طريق مسؤول أو ضابط منزوع الضمير، يتخيل أنه الوطني الوحيد الذي يحب بلده، وأن أي مفكر أو ناقد للأوضاع هو من أعداء الوطن!

يذكّرنا هذا بالحوار في فيلم (زوجة رجل مهم) بين البطل ضابط أمن الدولة (أحمد زكي) والكاتب الصحفي في المقهى، بعد إحالة الضابط إلى المعاش، حينما يسأله الصحفي: “إنت ليه كنت بتعمل كده؟” وتأتي إجابة الضابط صريحة: “كنت بحمى الوطن منكم”!

هكذا هي الفكرة، احتكار الوطنية أو احتكار أي فكرة، فهناك من يعتقد دائما أنه يحتكر الحقيقة، وأن ما يعتقده هو الصواب الكامل.. وأعتقد أن تلك هي بوابة جهنم على الأوطان، فلا أحد يمتلك الحقيقة كاملة.

المصدر : الجزيرة مباشر