ملف المسلمين الضائع بين العرب والصين

مظاهرات باريس في شهر مارس الماضي ضد الانتهاكات التي يتعرض لها الإيغور

جاء صوته الغاضب عبر الهاتف بعد اطلاعه على المقال الذي نشر الأسبوع الماضي: (بين سجون مصر والصين)، قال المتحدث: “تتذكرون السجون التي تقيمها الصين للمسلمين عندما تتحدثون عن مشاكلكم، بينما نحن إذا ما اخترنا بين الإقامة في وطننا وغيره، سنختار حتما الإقامة في السجون المصرية”.

تعجبت من الأمنية الغريبة للرجل، وعدت بالذاكرة، فإذا به أحد الطلاب الإيغوريين، الذين كانوا يدرسون في جامعة الأزهر منذ سنوات. فقد غادر الصديق القديم للخارج بعد ملاحقته من السلطات المصرية، بناء على اتفاق بين القاهرة وبيجين بإعادة كل الطلاب الإيغور إلى الصين عام 2016. فاجأني الرجل بما حدث له خلال هذه الفترة، رغم ما كنا نراه من اهتمام صيني رسمي بهؤلاء الطلاب. فكم من مرة شاركت معهم في احتفالات بطلاب البعثات التي كانت تنظمها السفارة الصينية بالقاهرة، بالتعاون مع اتحاد الطلاب والعلماء الصينين والمركز الثقافي والمكتب التعليمي التابعين للسفارة، بحضور السفير السابق سونغ آي قوه، والمستشار السياسي خوان والمستشار الإعلامي لي دونغ. وذكرت الرجل بمدى احتفائنا بطلاب الإيغور، وزيارتي لبعض أسرهم للتحدث معهم والتمتع بالأطعمة التي اشتهروا بها في مطاعمهم بحي العباسية وبجوار مدينة البعوث الإسلامية حيث يقيم نحو 3000 طالب، وحول ما نسميه (المستعمرة الصينية) التي تضم نحو 30 ألف صيني من مختلف القوميات، بل والكتابة، عن هذا الأمر أثناء عملي كمستشار لمؤسسة إعلامية صينية كبري، وتنفيذ عدة أفلام ومؤتمرات، بطلب من السفارة الصينية والتلفزيون الصيني.

موقف 14 دولة عربية

تغيرت نبرة صوت الرجل وقال بحزن، لقد انتهت هذه الفترة الثرية، وأصبحنا الآن مشردين في أنحاء العالم، بعد أن طُردنا من مصر، التي رحلت عشرات الأفراد إلى الصين قسرا، في شهر يوليو 2017، ولم نستدل لهم على أثر حتى الآن.

شرح الرجل مأساته مع زملائه، بتفاصيل تجعل المرء يخجل من نفسه، حيث تعرضوا لصنوف العذاب، على بعد مئات الأمتار منا، ولم نعرف إلا ما أطلعنا عليه من توقيع مصر والصين اتفاقية لتبادل المعلومات الأمنية الخاصة بالإرهاب منتصف عام 2016، وقرأناه عن ملاحقة الشرطة لبعض طلاب الإيغور بطلب من السلطات الصينية، بزعم انضمام بعض مواطنيهم إلى تنظيم “داعش”. قال الرجل: لقد جاء الإيغوريون إلى مصر طلبا لدراسة العلوم الإسلامية، التي نشتاق لمعرفتها، بعد أن أصبحت الدراسة في المعهد الإسلامي الوحيد في بلدنا، لا تقبل سوى 50 طالبا ًمن بين آلاف المتقدمين سنوياً، وعلى هؤلاء، قبل أن يذاكروا الفكر الشيوعي، قبل تعلم الإسلام، وأن يكون ولاء الطالب للمعتقد الماركسي، حيث يقسم على الإيمان بالنقاط العشر التي يؤمن بها كل ملحد في الحزب.

ويكمل: لقد ظننا التقارب العربي مع الصين، مع حدوث انفراجه بمنح الإيغوريين حق إصدار جواز للسفر عام 2015، سيمكن كل فرد من حرية السفر والدراسة لتعلم دينه في المستويات الجامعية وما فوقها، سواء من خلال الدعم الحكومي أو على نفقتهم الخاصة فإذا بنا، نرى تقارب الأنظمة العربية مع الصين، لم يأت في صالحنا، لأن عامل الأخوة الدينية ليست في حساباتهم.

يستشهد الرجل بما أقدمت عليه 14 دولة عربية الأسبوع الماضي، عندما أيدت موقف الصين، في مجلس الأمن، حينما صوت المجلس على قرار يدين الصين على “القمع الذي تمارسه مع المسلمين الإيغور القائم على أساس عنصري وديني”. ويضيف: لقد كان الإيغور يعيشون في سلام مع الصينيين، رغم الدفع بملايين الصينيين من الهان، للإقامة في منطقتهم، وحصول الحكومة المركزية على الثروات المعدنية وغيرها، خلال العقود الماضية، إلى أن وقع حادث في مدينة أورومتشي عاصمة الإقليم.

معسكرات تعليم الشيوعية

ذكرني الرجل بما أقدم عليه الرئيس شي جين بينغ في البداية من محاولات لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي، فإذ بالحزب الشيوعي، يحولها إلى ما يسميه (الحرب على الإرهاب) ويبدأ في معاقبة شعب قوامه 23 مليون نسمة بجريرة بعض الأعمال الفردية التي لم تتكرر. وأصدرت الصين قانون (مكافحة الإرهاب)، حيث فرضت القيود على دخول المساجد وتربية اللحى والصوم والصلاة في أماكن العمل، وحظرت التعليم الديني بالإضافة إلى ما تنفذه من عقوبة بالسجن تصل إلى 7 سنوات لكل من يتعلم اللغة العربية ووضع نحو8 ملايين شخص في معسكرات لتعليمهم الشيوعية وتغيير قناعتهم بالإسلام قسرا. وصادرت السلطات الصينية أملاك سكان إقليم شينجيانع (تركستان الشرقية) وطردت موظفيها من الحكومة، بعد اتهام الشعب بـ “النفاق والانفصالية” وتقاعس الموظفين المنتمين لهم من محاربة الانفصالية”.

عاقبت حكومة الصين شعبا بأكمله، وهو ما يذكرنا بما حدث من قبل للمسلمين خلال حقب تاريخية مختلفة، أشهرها ما وقع أثناء فترة ثورات الأقاليم، وبداية انهيار الإمبراطورية، خلال الفترة من 1758 إلى 1873، التي شهدت حملات قتل واسعة للمسلمين، وهدم للمساجد، ومصادرة الأملاك والحريات، وتحريم ذبح البقر، ليضطر المسلمون إلى أكل لحم الخنزير، إمعانا في إهانتهم وإذلالهم. وقد كانت الحرب موجهة للمسلمين من أصول صينية “هوي”، في مناطق عديدة في قانسو ويوننان، وغيرهما، بسبب رفضهم للضرائب الباهظة التي فرضها نواب الإمبراطور الفاسدين، ووشاية بعض المبشرين الروس الذين كانوا يخشون انتشار الإسلام في الصين، خاصة في المناطق التي استولوا عليها من الإمبراطورية العثمانية، وترديدهم “إذا كثر المسلمون بالصين سيتحول الشرق بأكمله إلى الإسلام”. ورغم مشاركة المسلمين في حرب التحرير من الاحتلال الياباني، ووجود سجلات رسمية تتحدث عن دورهم في الدفاع عن الوطن، قمعتهم حكومة ” الكومينتانغ، بما دفع المسلمين إلى التحالف مع قوات جيش التحرير بقيادة ماو تسي تونغ والترحيب به والانضمام إلى قواته، عندما زحفت من الغرب والجنوب في اتجاه الشرق والعاصمة لإعلان جمهورية الصين الشعبية. ورغم معاداة ماو لكل الأديان في الصين، بعد إعلان الجمهورية إلا أن المسلمين نجو من أعمال التطهير الديني الذي مارسه مع الآخرين، إلى أن وقعت الكارثة للجميع في عهد عصابة الأربعة، والتي امتدت آثارها المهينة منذ عام 1966 إلى 1985، حينما أراد الزعيم دنغ شياو بنغ الانفتاح على العالم والتسامح مع أصحاب الأديان.

الحرب ضد اللغة العربية

لقد صنعت سياسة زعيم الإصلاح والانفتاح تقاربا كبيرا مع المسلمين والعرب بخاصة، ممن عاودوا الاتصال بالصين بعد فترة “الحقبة السوداء” لعصابة الأربعة. كان مسلمو الصين الذين تربوا على طاعة حكامهم، وألا يختلفوا عن مواطنيهم في شيء دوما في ملف الزيارات الوفود العربية والإسلامية. وكم حرصت الحكومة المركزية على تسهيل لقائنا بقيادات المسلمين في أماكن كثيرة، وكنا نسعد بها رغم أنها تجرى تحت حراسة مسؤولين من الحزب الشيوعي وشخصيات سياسية رفيعة. وكم شهدنا تطورا جيدا في حياتهم ومعيشتهم وأصبح لنا أصدقاء، نحتفي بهم كأخوة في الصين والقاهرة، ونفرح بأن يتم ذلك برعاية السفارات الصينية، إلى أن وقعت الطامة الكبرى للإيغور في السنوات القليلة الماضية، التي جعلتهم ملاحقين في الدول العربية، ودفعتهم للشتات، أو الاختفاء القسري الذي ساهمت فيه حكومات عربية ومسلمة.

لم تتوقف الإساءة للمسلمين في الصين عند الإيغور، بل طالت حظر كل مظاهر اللغة العربية وما يشير للإسلام في المقاطعات الأخرى، سواء على واجهة المحال مثل كلمة ” حلال ” أو إظهار أي رموز إسلامية. كما منعت عملاق التكنولوجيا (أبل) الأسبوع الماضي من وضع القرآن الكريم على منتجاتها أو تنزيل هذه المواد من (أبل ستور)، وتحظر نشر أية معلومات دينية على شبكات الإنترنت، وحمل المصاحف أثناء دخول الصين، في حرب تشبه ما كان يحدث في “الحقبة السوداء”. رغم ذلك لم تهتم الدول الإسلامية لما يحدث للمسلمين، وهو أمر يذكرنا بما خطه الكاتب الكبير فهمي هويدي في مقدمته لكتاب “المسلمون في الصين” منذ ربع قرن ونيف بأن ” ملف المسلمين في الصين ملف ضائع في الضمير الإسلامي، فهو موجود ومفقود، لكن مشكلته وعقدته أنه موجود وسط أكثر بلاد العالم عزلة وتفردا، بل وسط أضخم وأغرب محيط بشري عرفه التاريخ وهو محيط شطآنه بغير نهاية وعمقه بلا قرار، وألغازه وطلاسمه سمة ممتدة منذ الأزل، وباقية ربما إلى الأبد، في أرض الأسرار الكامنة، عند آخر أطراف المعمور ضاع ملف مسلمي الصين، وطال الأمد في التيه، وكادت ملايينهم، تتحول في الذاكرة الإسلامية من بشر إلى أشباح”.

قال المفكر الإسلامي هذه الكلمات منذ 3عقود، قبيل انفجار ثورة المعلومات والإنترنت، فكيف بنا أن ننسى مسلمي الصين والإيغور بخاصة ونحن نرى ما يحدث لهم بأعيننا ونراقب أخبارهم السيئة ليل نهار؟!

المصدر : الجزيرة مباشر