“الموظف المصري” من زمن “الفلاح الفصيح” إلى “البوابة الإلكترونية”

يمتلك “الموظف المصري” إرثا تاريخيا عريقا ومتجذرا، من البيروقراطية الإدارية، متراكم لديه عبر العصور والأزمنة، حتى أنه يُبدع في تطويع القوانين واللوائح الإدارية وإعادة تشكيلها لتمرير “الشيء”، ونقيضه أو عكسه تماماً، حسبما يمليه عليه ضميره ومدى انضباطه الوظيفي، والهوى في نفسه أحيانا.

المواطن في مصر، اعتاد “تاريخيا” هو الآخر، أن يدفع فاتورة هذا التلاعب باللوائح، فيلجأ لـ “الشكوى”، إلى الحكومة المركزية، وكبار المسؤولين، متضررا، وساعيا لإسماع صوته لهم، طلبا للإنصاف وحمايته من هذا العسف الذي ينقلب في بعض الحالات اضطهادا.. لكن، رغم إتاحة سبل الشكوى إلكترونيا، فإن الآليات المتاحة للتعامل معها ليست فعالة دائما، وفي حاجة إلى مراجعة.

 الفلاح الفصيح وحكايته مع الموظف تحوتي

ذلك أن التاريخ القديم لمصر، ينقل لنا قصة “الفلاح الفصيح”، التي دارت قبل أربعين قرنا، وهو ينتسب إلى مدينة وداي النطرون التابعة حاليا لمحافظة البحيرة، وهي تقع شمال العاصمة المصرية (القاهرة)، بنحو 106 كيلو مترات.
تتلخص القصة حسبما أوردها الأثري الكبير سليم حسن (1886- 1961م)، صاحب موسوعة (مصر القديمة)، في أن فلاحا من حقل النطرون، سار مع حميره المحملة بملح النطرون المستخدم في التحنيط لموتى الفراعنة، متوجها إلى عاصمة مصر آنذاك، إهناسيا القريبة من الفيوم، وذلك لمبادلة الملح بالغلال التي يتاجر فيها.

واقترب خنوم من مقصده، وبينما هو على مشارف إهناسيا، أكلت حميره أعواداً من زراعات الموظف تحوتي، العامل تحت رئاسة (رينزي) الذي يعمل مديرا للبيت العظيم للملك، أي رئيس الديوان الملكي بلغة عصرنا.. وجدها تحوتي فرصة للاستيلاء على الحمير بما تحمله، معتبرا أنها ثمن لأعواد الزرع التي أكلتها الحمير.

لم يركن الفلاح للظلم الذي حاق به، فذهب إلى رينزي، شاكيا له تحوتي الذي هو أحد رجاله.. لكن حاشية رينزي ومجلسه من الاشراف تكتلوا لإقناعه بأن الفلاح الشاكي تاجر، ربما يريد التهرب من الضرائب، وأن شكواه مجرد مكايدة لتحوتي.

خنوم بدوره لم يستسلم لهذا التحالف مع تحوتي ضده.. بل واصل مسيرته إلى حيث قصر الفرعون (نب كاو رع)، ووقف ببابه، فكان اللقاء الثاني مع رينزي مدير البيت العظيم، الذي استمع إلى شكواه مجدداً، باهتمام أكثر.
الفلاح، لم يتوقف في شكايته على مظلمته.. بل راح يرصد المظالم والمفاسد الشائعة بمصر، معبراً عن كثير من المصريين في هذا الزمن البعيد.
لم يجد رينزي الذي انبهر بفصاحة الفلاح خنوم، مهربا من نقل شكواه وثماني شكاوى أخرى تالية، إلى الملك نب كاو رع شخصيا، الذي انبهر هو الآخر بفصاحة الفلاح وأسلوبه الجميل، في حديثه عن الحق والظلم والعدل والإنصاف وفساد الموظفين، وغيرها من المعاني الفلسفية الكبرى، وعن مسؤولية الحاكم.. محذرا له من عاقبة الظلم، وناصحا بتوخي الإنصاف للمظلومين، ومحاسبة الظالمين حتى لا يفسدون كل شيء، وتضيع الدولة.

كانت أوامر الملك هي إطعام الفلاح وحسن معاملته، وإرسال المؤنة لأسرته، ودفعه لمواصلة شكايته، حتى يتعرف على ما يجري في بلاده وحال الرعايا، حتى بلغت شكايات الفلاح تسع شكاوى وهي مدونة على برديات موجودة حتى اليوم في متحف برلين الألماني.

انتهت قصة الفلاح الفصيح خنوم، بالأمر الملكي لمساعديه، بإنصاف الفلاح وتعويضه، ومعاقبة الموظف تحوتي بمصادرة أملاكه.

يدفع المواطن للشكاية ويفلت عند المساءلة

على شاكلة تحوتي فإن هذا النوع من الموظفين، هو الذي يدفع المواطن للشكاية، لا يجد صعوبة كبيرة، في الإفلات من العقاب عند المساءلة أمام جهة تحقيق مثل النيابة الإدارية، أو المراجعة من قبل مستويات وظيفية أعلى، فهو يمتلك بنية كاملة من أساليب التبرير والتضليل في هذه الحالة.. كما أنه قد لا يعدم التضامن من أمثاله الذين قد يتم سؤالهم أو تكليفهم بالفحص لمسلك إداري ما، وهذا في بعض الحالات بطبيعة الحال دون تعميم.

هذه “الممارسات” تتم كلها باسم القوانين واحتراما ظاهريا لها خلافا للواقع.. يلجأ إليها قطاع من الموظفين، تلاعبا باللوائح وتوظيفا لها للارتشاء، والتربح من وظائفهم، يبررونها لأنفسهم بـضآلة رواتبهم، وعدم كفايتها لتأمين وتسيير حياتهم المعيشية.

لدى بعض الموظفين كبارهم وصغارهم، مهارة فائقة، في التقاط توجهات الحكومة المصرية، وتوظيفها سريعا لتعظيم المنافع الشخصية لهم، والرشى، ولا يخلو الأمر من بعض المسؤولين، على شاكلة قضية الرشوة المتداولة حاليا لموظفين كبار بوزارة الصحة، ورؤساء الأحياء في مرات سابقة، ووزير للزراعة، ومحافظ للمنوفية، ونائب لمحافظ الإسكندرية سابقين، وغيرهم.

عودة للمواطن المصري وعلاقته التاريخية بالشكوى، ولماذا يختارها من دون غيرها، للذود عن نفسه في مواجهة موظف يتسلح ضمن بنية إدارية معقدة، بصلاحيات واسعة، وترسانة لوائح وتعليمات وتوجيهات شفوية أحيانا؟ ولماذا يتعين على الحكومة المصرية الاهتمام بمنظومة الشكاوى، وتدبير آليات فاعلة لفحصها وصولا إلى وجه الحق، وإنصاف الشاكين، دون تركهم فريسة لمشاعر سلبية قد لا تحمد عقباها.

الدستور وحق الأفراد في التقاضي ومخاطبة السلطات العامة

يتيح الدستور لكل “فرد” حق مخاطبة السلطات العامة كتابة وتوقيعه (مادة 85)، فالفرد له حق إرسال شكايته إلى النيابات الإدارية المختصة بمساءلة الموظفين دون المحافظين والوزراء، ويعيبها استهلاك وقت طويل نسبيا.. هناك أيضا هيئة الرقابة الإدارية، المعنية بالرقابة على أداء الجهات الإدارية، لكن عملها محاط بالسرية وتهتم بوقائع الفساد.

متاح دستوريا أيضا للمواطن، إقامة الدعاوي أمام القضاء (مادة 97)، والمختص هو “القضاء الإداري” وهو على درجتين، ومعلوم أنه ينظر نحو نصف مليون دعوى سنويا، يصعب الفصل فيها جميعا في نفس العام، لأسباب كثيرة.. لذا فإن التقاضي، قد لا يسعف المتضرر في الوقت المناسب، نتيجة كثرة المتقاضين، ومماطلة جهات الإدارة وموظفيها.

هذا الكم الهائل من القضايا أمام القضاء الإداري، يرجع إلى صدور قرارات معيبة قانونا، والتمسك بها في مواجهة مواطن أو موظف مستحق للترقية أو النقل أو بدلات نقدية أو غيره.. من الملائم التنبيه لما ينادي به رجال قضاء، من ضرورة التزام الجهات الحكومية بتنفيذ أحكام المحكمة الإدارية العليا، على الحالات المماثلة، باعتبارها “مبادئ”، وذلك بدلا من إرهاق المواطنين بالتقاضي، واستهلاك وقت القضاء.

الموظف خصم وحكم أو تحقيق حيادي

يبقى بموجب المادة 85 المُشار إليها بالدستور، الحق للمواطن الفرد إرسال شكواه أو استغاثته إلى أي مسؤول حكومي في البلاد، فهذا هو الأسلوب الأيسر والأقل كلفة مادية ومعنوية وتوفيرا للوقت إن أتى بنتيجة.. هنا تظهر المشكلة التي يتعين معالجتها حكوميا..

ذلك أن كل وزير أو محافظ أو رئيس لهيئة عامة، ينتهج أسلوبه الخاص، فالبعض منهم يهتم، ويأمر بتحقيق حيادي للشكاوى الواردة إليه، ومن ثم تكون النتيجة للمواطن صاحب الحق.. بينما غيرهم، متحللا من مسؤوليته، يلجأ إلى إحالة الشكوى للموظف نفسه المشكو في حقه، أو رئيسه المباشر، كي يكون خصما وحكما.. هنا تتكتل الجهة في أكثرية الأحوال، دفاعا عن الموظف المنتسب لها، حمايته من المحاسبة، ثم الاستدارة على الشاكي للتنكيل به.

من الإنصاف أن الحكومة المصرية أنشئت بوابة إليكترونية، عام 2017، أسمتها منظومة الشكاوى الحكومية الموحدة، لتلقي الشكايات والمطالب من المواطنين، وهي تتمتع بالسهولة واليسر كونها إليكترونية.

غير أن هذه المنظومة تتولى إحالة الشكاوى إلى الرئاسات العليا للمشكو في حقهم، من وزراء، ومحافظين، ورؤساء للهيئات، وبدورهم كما أسلفنا القول في الفقرة السابقة.. إما أن يكون التحقيق محايداً، ينتهي بحل المشكلة، أو تكليف المشكو في حقه، بالرد عليها، ثم يواصل التنكيل بالموطن صاحب الشكوى.

3.2 مليون شكوى، والمنظومة الحكومية

طبقا لتصريحات إعلامية للدكتور طارق الرفاعي مدير منظومة الشكاوى الحكومية، فإن “المنظومة استقبلت وتعاملت مع نحو ثلاثة ملايين ومئتي شكوى واستغاثة منذ إنشائها (2017)، وحتى نهاية يونيو/حزيران الماضي.. هذا الرقم المعلن رسميا يعني أن المنظومة تتلقي سنويا نحو 800 ألف شكوى، ولو كانت هناك فعالية كاملة وحاسمة للمنظمة، لما وجد نصف مليون مواطن سنويا أنفسهم مضطرين للجوء إلى التقاضي، مع ما يترتب عليه من جهد وأعباء مالية اتعابا للمحامين ورسوما.

يبقى على الحكومة دراسة التجارب الدولية في هذا الشأن، وتجربة ديوان المظالم الذي كان ملحقا برئاسة الجمهورية  زمن الرئيس أنور السادات في السبعينات.. إذ إن وجود المنظومة الحكومية للشكاوى، مع سهولة التعامل معها، هو عمل جيد بلا شك.. لكنه غير كاف مالم تكن فعالا بنسبة كبيرة.

إن الشكوى فرصة للمواطن للتنفيس، والتعبير عن همومه، وإنصافه يخلصه بالتأكيد من المشاعر السلبية التي لا يحمد عقباها، حين يشعر بالظلم، بينما الأبواب مغلقة أمامه لاستعادة ما يراه حقا.

المصدر : الجزيرة مباشر