“الأقمشة التراثية” كساء وفن عبر التاريخ

المؤرخ الاسكتلندي ديفيد روس يسير مرتديًا الترتان في وسط لندن متتبعًا الخطوات الأخيرة للاسكتلندي ويليام "بريف هارت" منذ 700 عام.

الكساء، ذلك الفعل الإنساني الراقي الذي ستر به الإنسان الأول سوأته في بداية التاريخ الإنساني، واستخدم فيه كل مكونات البيئة من أوراق النباتات، وجلود وفراء الحيوان، حتى طوره إلى منسوجات وأقمشة عبر العصور، تلك السمة المميزة للشعوب في كل زمان، فبمجرد أن تطأ قدمك بلدة جديدة، ستنبهر عيناك بذلك المزيج الجذاب، بين الألوان والأقمشة، ذلك التناغم العجيب بين المنسوجات والحرفة وتطويعها لتناسب أسلوب حياة الشعوب.

فالأقمشة ليست مجرد مجموعة من الأنسجة تم تضفيرها لتصنع تكويناً جمالياً، وإنما هي فلسفة كاملة وثقافة راسخة كما عرفها الكاتب والمؤرخ الاسكتلندي القديم توماس كارليل (1795-1881)، في كتابه (فلسفة الملابس): “عندما أبحرت في عالم الأقمشة التراثية لم أكن أعلم أنني أمخر عباب بحر عميق يمتلئ باللآلئ والأصداف”، قد لا تكفي مقالة واحدة من اكتشافها جميعاً لكنني سوف أبذل قصارى جهدي في ذكر أغلاها، وسأبدأ بالاقمشة التراثية المصرية، مثل قماش “التُلي” الموجود حتى الآن بمحافظة أسيوط -في صعيد مصر- وهو عبارة عن نسيج يزين بخيوط ذهبية أو فضية تزخرفها النساء بأيديهن وهو من الفنون القديمة التى توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل. ويتميز التلي بدقة تطريزه ورسوماته المتنوعة التي تُظهر الطيور، والحيوانات والنباتات والرسومات التراثية كالشمعدان والعروسة وجميع تفاصيل العرس.

وعادة ما يستخدم التلي فى الأعراس حيث ترتدي الفتاة عند خطبتها ثوباً بُنياً فاتحاً يطبق عليه العامة (البيج) أما عند الزواج فإنها ترتدي ثوباً ذا لون أبيض والطرحة فتكون من التلي الفضي المطرز.

من اسكتلندا إلى الصين

ومن التلي فى صعيد مصر إلى “الترتان” الاسكتلندي، تشتهر اسكتلندا إحدى دول المملكة المتحدة، بقماش الترتان وهو عبارة عن قماش منقوش يتكون من شرائط متقاطعة أفقية ورأسية والقماش الذي يصنع من الترتان عادة هو الصوف. وهو النسيج الأهم للتنورة الاسكتلندي التي تمتد إلى مستوى الركبة. لعلك شاهدت النجم الشهير ميل جيبسون وهو يرتديها في فيلمه الأشهر (القلب الشجاع)، وهو يجسد شخصية الثائر الاسكتلندي وليام والاس.

ومن اسكتلندا نطير إلى الصين حيث الحرير الذي اكتشف حوالي سنة 2700 ق.م، بفضل زيلتش زوجة الإمبراطور هوانجدي أثناء احتسائها الشاي تحت شجرة التوت، عندما سقطت شرنقة فى فنجانها. قامت زيلتش بتفكيك الخيط الرفيع المتصل بالشرنقة ووجدت أنه يتفكك من الشرنقة، ثم بدأت فى إقناع زوجها أن يمنحها بعض أشجار التوت حيث تتمكن من تربية دودة القز التي تتنتج تلك الشرانق الجميلة، وكانت هذه بداية اكتشاف خيوط الحرير.

ويقال إن الفضل في اختراع أول نول للحرير يعود إلى الإمبراطورة زيلتش، وقد حافظت الإمبراطورية الصينية على الانفرد بأسرار دودة القز لفترة طويلة وأخفت تفاصيل إنتاجه سراً عن العالم طيلة 3000 سنة.

وعلى الرغم من كل هذه السرية فإن احتكار الصين لإنتاج الحرير لم ينحصر داخل الإمبراطورية الصينية، بل انتقل من الصين عبر طريق الحرير إلى باقي دول العالم.

ومن الصين إلى جزيرة جاوة بإندونيسيا، حيث ظهر فن الباتيك “فن زخرفة القماش” وهو حرفة تقليدية قديمة تعتمد على الشمع والأصباغ لتزيين الأقمشة وزخرفتها وهو من أشهر الفنون فى إندونيسيا وكان مخصصًا في الماضي للملوك الجاويين، الذين كانوا يعرفون بأناقتهم واهتمامهم ورعايتهم للفنون، وقيامهم بتقديم الدعم اللازم لتطوير العديد من الأشكال الفنية مثل زخرفة الفضة والدمي الجلدية التى تصنع عادة من جلد الماعز والمعروفة باسم وايانج كوليت والتى كانت تستخدم فى عروض مسرح العرائس، والرقص الجاوي وغيرها من الفنون.

يوجد العديد من أنواع الباتيك التي يتم استخدامها فى إندونيسيا ويستطيع أن يعرفها الإندونسيون بل ويعرفون مصدر القطعة إن كانت من يوجياكارتا، جاوة، بالي وما إلى ذلك، فكل شكل من أشكال الباتيك له تاريخه الخاص حسب كل منطقة فمثلا “سيكار جاجاد” هو الباتيك المشهور فى مدينة يوجياكارتا ويشتهر بالرسومات المتنوعة لأزهار العالم الجميلة التي أتت من اسمه فكلمة “سيكار” تعني الزهرة و”جاجاد” تعنى العالم.

وتوجد العديد من الورش الصغيرة والمصانع التي تعرض هذا الفن أمام الزورار، من خلال النساء التي تعمل بحرفية على قطعة القماش وهن جالسات على مقاعد صغيرة أو على أرضية خرسانية، إنهن يستخدمن الشمع الساخن (خليط من شمع النحل والبارافين) لإنشاء أنماط على النسيج وبعد جفافه يفرغ الشمع بالرسومات المطلوبة، وتصبغ الفراغات بالألوان ليحولن قطعة قماش قطنية بيضاء إلى لوحة فنية بشكل يدوي، وهذه العملية اليدوية بطيئة وتستغرق ساعات وساعات لإتمام قطعة واحدة.

بينما يقوم الرجال بصبغ القماش عن طريق قطع من الحديد محفور عليها رسومات، ويضعون القطعة على مكان معين على القماش ببطء ودقة لجعلها متماثلة للقماش، وكل جزء في القطعة يختلف أو يتماثل مع الآخر حسب دقة ومهارة الشخص.

وتنفرد جزيرة جاوة بنمط باتيك يحمل اسم “كوجانج كيجانج” وهو يمثل الغزلان والساطور (حيث يوجد ببوجور التي تقع فى غرب جاوة حديقة للغزلان، والساطور السلاح سونداني تقليدي) رمز مدينة بوجور، وفى جنوب سومطرة نشأ “باليمانج باتيك” الذي هذا تأثر بالعديد من الثقافات كالثقافة الصينية والماليزية والإسلامية ويهين عليه عناصر نباتية وخطوط متناظرة لإظهار الأناقة والنقاء.

الأمير تشازلز في زيارة لاسكتلندا بالتنورة المصنوعة من الترتان

 

الجينز

ومن الاقمشة التراثية إلى ذلك النسيج الأمريكي الساحر الذي أصاب العالم بالجنون، فمن منا لا يمتلك بنطالاً واحداً من الجينز الذي نحتفل هذا العام بذكري نشأته، حيث يمر 148 عامًا علي اختراع قماش “الجينز” الذي امتاز بمتانته، في صناعة أشرعة السفن وأغطية العربات التي كانت تجرّها الخيول في الماضي، قبل دخوله إلى مجال صناعة الملابس، أما تسميته فتعود إلى مدينة جنوة الإيطالية التي كان يُصنع فيها هذا النوع من القماش القطني، والتي كانت تُعرف بالإنجليزية باسم “جينز”، حيث تم تطويره وتحويله إلى ملابس على يد مهاجر ألماني فقير يُدعى “ليفي شتراوس” هاجر إلى أمريكا بحثاً عن الذهب، ولكن فشله في هذا المجال دفعه إلى العمل في تجارة القماش ومنها قماش الجينز، ثم فكر شتراوس في تصنيع ملابس من خامة الجينز الرخيصة والتي تدوم طويلاً لتصبح بعد ذلك اللباس المفضّل لدى عمّال المناجم وسكك الحديد والمزارعين ورعاة البقر وبعدها اجتاحت حمى الجينز العالم واستخدمه الجميع غني وفقير على حد سواء، ليبقى علامة على المساواة ، وتبقى الاقمشة والنسيج علامة فارقة ودليلا على وجود الحضارات التي قد تختفي بعض معالمها ، لكن يبقى منها الأثر الذي يعبر عن البناء، وتبقى المنسوجات والأقمشة لتعبر عن ذوق وحضارة الشعوب على مر العصور.

المصدر : الجزيرة مباشر