رشوان توفيق.. القتيل الحي وبيت الحب

الفنان رشوان توفيق

بكى الفنان الجميل رشوان توفيق (88 سنة)، وأبكانا معه، وأثار شجون وأحزان جمهور واسع من محبيه ومتابعيه، وهو يحل ضيفا على الإعلامي عمرو الليثي، في برنامجه التلفزيوني “واحد من الناس” قبل يومين بصحبة ابنته مذيعة التلفزيون هبة رشوان، وحفيدته من ابنه الراحل توفيق.

بدا الرجل خلال اللقاء في حالة نفسية سيئة جداً، حاملا لجبل من الهموم، مقاوماً أحزانه، ودموعه، التي سالت وهو يتطرق لدقائق معدودة إلى حكايته مع ابنته الصغرى، التي سايرت زوجها وابنها (حفيده)، في رفع قضايا ضده أمام المحاكم لـ “خلافات مادية”.

  ذهول وعطاء وشقاء.. ويأبى أن يجلد ابنته

كان الرجل مذهولا، يتساءل كيف أنه أعطى بلا حساب، ثم يكون هذا في نهاية العمر.. ينتابه شعور مؤلم بأنه “القتيل الحي”، فهو ما يزال يكابد الآلام لفراق زوجته المتوفاة عام 2019، بعد رحلة زواج استمرت 62 عاما.، وقبلها بسنوات فقدان ابنه توفيق الذي رحل عن عمر 41 سنة، وهو غير قادر على استيعاب ما يحدث معه من أجل “الفلوس”، التي تغير النفوس مثلما يقول أسلافنا الطيبون.

لم يستغرق الفنان رشوان توفيق، في “التفاصيل” التي قادته إلى المحاكم في هذا العمر المصحوب بالوهن وربما الهشاشة النفسية، وأبى أن يجلد ابنته، أو يثير المشاعر ضدها، ولو فعل لما كان ملوماً.. بل إنه أثنى على طيبتها، ودعا لها بالهداية، رغم أنها ساقته بسلبيتها إلى المحاكم، في الوقت الذي يحتاج فيه، شأن “الآباء” بالعموم، إلى حنو الأبناء وعطفهم، ورعايتهم، ردا للجميل، وتعويضا لهم عن سنوات التعب والحرمان والشقاء من أجل تربيتهم وإعانتهم ليكونوا في أوضاع اجتماعية جيدة ومرموقة، تتوفر لهم الكثير من سبل الحياة والرفاهية والراحة.

وفاء وعرفان وامتنان لزوجته من زمن الوئام والمحبة

لم يكن الفنان رشوان توفيق ميسوراً في بداياته، وهو الذي أدى مئات الأدوار في المسرح والتلفزيون على وجه الخصوص، والقليل في السينما، وكلها لشخصيات جاذبة إنسانيا واجتماعيا، بأداء ومضمون متميزين.. فقد تزوج في عمر 17 سنة من رفيقة مسيرته الحياتية، وراح يدرس في معهد الفنون المسرحية ويعمل بالتلفزيون، ويعول بيته، حسبما روى، متحدثا بوفاء وعرفان وامتنان عن زوجته التي لم تسأله يوما “هنعمل إيه بكره”، وأعانته على تحمل مشاق الحياة وتربية الأبناء، والعمل بالفن، دون أن تتبرم يوما أو تشكو سوء الحال، كما هو حال كثير من أمهاتنا في زمن الوئام والمحبة.

ففي زمن الفن الجميل القادم منه “توفيق”، لم تكن أجور الفنانين كما هي الآن.. بل كان عموم هذا الجيل من الفنانين، إلا نادرا، يتميز بالثقافة العالية، والرقي، وعشق الفن والإيمان به رسالة، ساعين إلى تحقيق ذواتهم، بحسن الاختيار للأدوار المسندة إليهم، والأداء الجيد، كي تترك أعمالهم أثرا، يذكره لهم الجمهور، ولم يؤد الرجل دورا يندم عليه.

تأمين حفيدته التي فقدت أباها لمواجهة قادم الأيام

مما رواه توفيق رشوان لعمرو الليثي، أنه لم يكن يحتفظ بأمواله لنفسه، بل كان ينقلها إلى زوجته، باسمها، إذ كان يحسب أنه مغادر للدنيا قبل زوجته، والتي بدورها منحته توكيلا للتصرف في الأموال، التي هي أمواله بالأصل.

يمكن مما قال، والمواجهة التلفزيونية التي جرت لاحقا على الهواء، بين ابنته هبة، وحفيده الذي يقاضيه، استنتاج أن سبب الأزمة، يرجع لقيام رشوان توفيق، بإعادة توزيع أمواله على ابنتيه، وحفيدته ابنة ولده الراحل، وربما أنه اختص الأخيرة بقدر زائد، مراعاة لكونها فقدت أباها، وسندها في الحياة مبكراً.. رغبة منه في تأمينها وحمايتها من غدر الزمن، علَ الأموال تكون سندا لها في مواجهة متطلبات ما هو قادم من الأيام وما تخفيه.

القسمة الجديدة وأوجاع نفسية شديدة الإيلام

يبدو أن هذ القسمة الجديدة أثارت حفيظة زوج ابنته وحفيده، فسارعا إلى المحكمة، اعتراضا، ورفضا، لهذا المسلك، المُسيء، دونما اكتراث، بما قد ينعكس سلبا على الفنان المحترم في هذا العمر، من أوجاع نفسية شديدة الإيلام.. المحزن والذي لا يمكن الدفاع عنه، هو أن الاستحواذ على “الفلوس”، هي المحرك لهم، ناسين أنها أمواله، أصلا، وأنه حُر التصرف فيها، ما دام حيا، وأنه لم يُقصِر معهم، ومنحهم الكثير، حتى ولو كان قد أخطأ في إعادة توزيعها.

الجحود والنكران الذي حل بالفنان رشوان توفيق، ليس جديداً، فمثله يحدث كثيرا، لكن بعيدا عن الإعلام، وكم من أُناس في مراكز مرموقة، يلقون بـآبائهم في الشوارع للاستحواذ على شقة هنا أو هناك، أو لتجريدهم من أموالهم، واستعجال الاستحواذ عليها قبل وفاتهم، دون وازع من رحمة ولا شفقة.

الأنانية والفردية.. نفسي وليهلك الجميع من بعدي

إنها قضية أخلاقية واجتماعية وإنسانية.. تشير إلى تحجر القلوب وفساد النفس، وغياب الضمير، وسوء الخلق والتربية إذ إن مثل هذه الممارسات بدأت تنمو وتشيع منذ عقود، مع انقلاب هرم القيم في مجتمعنا، ليعلو الرديء منها، إلى قمة الهرم، ويسقط المحمود منها إلى القاع.

صارت الأنانية والفردية، وقاعدة نفسي وليهلك الجميع من بعدي، وتزايد النزعات المادية والاستهلاكية، وتزايد الصراعات في المجتمع، مع تضاؤل الفرص، من أجل الاستئثار بأكبر قدر من المنافع بأي وسيلة، سواء كانت مشروعةً، أو غيرها، دون اعتبار للآخرين ومشاعرهم.. بل وحياتهم عند اللزوم.

الغش والتدليس والخداع والاتجار في الطب والتعليم

إن الجحود والنكران والعقوق للآباء، هو المكمل للسيء من القيم والممارسات الأخلاقية الرديئة، مما يصعب حصره.. على شاكلة الغش والتدليس والتزوير وارتشاء الموظفين كبارا أو صغارا، والاتجار في مهن مثل: الطب، والتعليم وغيرها، وكذا، النفاق والتطبيل، والخداع والتضليل والازدواجية في التعاملات اليومية، سعيا وراء مكاسب هي في النهاية ضيقة، لا تستحق، تحت عنوان جامع وهو قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”.

عودة لجمهور وسائل التواصل الاجتماعي، وتعليقاته على مأساة الفنان رشوان توفيق، فإن البعض أرجع أصل المشكلة إلى تقصير رشوان توفيق نفسه في تربية ابنته، والواقع الذي لا بد من الاعتراف به، أن الأسرة المصرية عموما، فقدت منذ عشرات السنين السيطرة تربويا على الأبناء، مع تراجع الدور التربوي للمدرسة.

 شيوع وسائل الإعلام والتواصل وتراجع دور المدرسة

بعبارة أخرى ففي الأزمنة الماضية حتى الخمسينيات والستينيات، كان للأسرة، الدور الأكبر والحاسم في تربية الأبناء وإكسابهم القيم الجيدة المرغوبة، أو حتى القيم الرديئة في بعض الأسر أو البيئات.. في الحالين كانت الأسرة هي المتحكم أولا.. ثم تأتي المدرسة لتكمل الدور تربية الأبناء بما تملكه من هيبة ومكانة.

مع شيوع التلفزيون والسينما والفضائيات وخلل الأولويات الحكومية، وتراجع الدور التربوي الحيوي لمؤسسات التربية الرسمية (المدرسة)، والتثقيف (إذاعة وتلفزيون وسينما ومراكز ثقافية، وغيرها)، وانتشار الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي.. كل هذا أضعف تأثير الأسرة، وقبضتها على عملية تربية الأبناء.

صارت كل هذه الوسائل إلى جانب شلة الأصدقاء للأبناء ووسائل الإعلام، والتواصل، والشارع والنادي وغيرها، مشاركين للأسرة في التأثير على أولادنا واتجاهاتهم وقيمهم وآرائهم وأخلاقياتهم.

رفقا أيها اللائمون لرشوان توفيق

كما أنه ثمة ملاحظة مرتبطة بالقضايا الاجتماعية والإنسانية، وهي أنه يستحيل تعميم قاعدة واحدة على كل الحالات المتشابهة، بمعنى أننا لا يمكننا أن نطلق حكما بأن سوء تربية الأب للابن، هي السبب في عقوقه، فالقضية هنا ليست علمية ولا مسألة حسابية جامدة.

من هنا فليترفق اللائمين للفنان المثقف والقيمة والقامة رشوان توفيق، وارحموه ولا تحملوه رهقا، أكثر مما بنفسه من مرارات وآلام وأحزان، حتى أن الرجل، وحسبما يصف هو نفسه، ظل يبني طوال حياته بيتا من الحب، ويراهم الآن يريدون هدمه.. كان الله في عونه وأعانه وأهدى ابنته وزوج ابنته وحفيده إلى الصواب.

المصدر : الجزيرة مباشر