الأغنية الشعبية.. ومعركة هاني شاكر وساويرس

ساويرس

عاشت الأغنية الشعبية طويلا في كنف الموسيقى والغناء، جزءا من الملمح العام لهما في مصر، بل تخطت ذلك إلى الوطن العربي ممثلة في مطربين كبار، وصل الأمر لتوصيف ما قدمه نجوم كبار، أمثال فهد بلان ومحرم فؤاد ومحمد رشدي بأنه أغنية شعبية.

يقال إن معركة كبيرة تنافسية حدثت بين العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ وبليغ حمدي الملحن المصري المجدد حول أغاني لحنها بليغ للمطرب الشعبي الكبير محمد رشدي..

فقد أصر عبد الحليم على غناء ألحان شعبية مع بليغ حمدي بعد النجاح الكبير لمحمد رشدي، في أغاني عبد الرحمن الأبنودي ومحمد حمزة وتلحين بليغ حمدي وعبد العظيم عبد الحق.

قدم عبدالحليم حافظ أغنية (على حسب وداد) مع بليغ حمدي تنافسا مع أغاني رشدي الشعبية مثل: ( ع الرملة) و (عدوية) وغيرها من الأغاني التي قدمها محمد رشدي.

في نفس الزمان والعصر، كان هناك ماهر العطار مطربا ًشعبياً، ومحرم فواد الذي قدم أيضا أغنيات صنفت بأنها شعبية، إضافة إلى المطرب اللبناني فهد بلان بأغنيته (اشرح لها)، ومن المطربات تأتي: فايزة احمد وعايدة الشاعر وليلى نظمي وشريفة فاضل ضمن تصنيف الغناء الشعبي.

كان للمجتمع قيم ومعايير استطاعت أن تفرض نوعا خاصا من الكلمات الراقية غناها هؤلاء:

فعندما غنى عبد الحليم من كلمات محمد حمزة جاءت الكلمات:

سواح وأنا ماشي ليالي سواح

ولا داري بحالي سواح

من الفرقة يا غالي سواح

ايه اللي جرى لي سواح

أو يغني أيضا:

علي حسب وداد قلبي يا بويا

راح اقول للزين سلامات.. سلامات.

أو يغني محمد رشدي

صياد .. صياد ورحت اصطاد .. صادوني

عدوية ..

طرحوا شباكهم رموش العين .. صابوني

يا عدوية

آه يا ليل يا قمر والمنجة طابت ع الشجر

أو يغني عبداللطيف التلباني:

من فوق برج الجزيرة الله الله على سحرها..

أو ماهر العطار

افرش منديلك ع الرملة.. وأنا ألف وآجي لك ع الرملة.

أما المطربات فتغني فايزة أحمد:

يا اما القمر ع الباب.. نور أنادي له

يا أما أرد الباب والا أنادي له.. أنادي له يا أما .

نجاح جيل

فقد نجح جيل الخمسينات من الشعراء في إبداع أغان شعبية مثلما فعل فتحي قوره مع المطربة الكبيرة شادية، وحسين السيد مع محرم فؤاد، وعبد الرحمن الأبنودي مع محمد رشدي، وعبد الحليم، ومع ملحنين كبار أمثال منير مراد وبليغ حمدي وسيد مكاوي و إبراهيم رجب، وقدموا بالفعل فنا شعبيا له قيمه ومعايير.. ولا نستطيع أن ننسى في هذا المجال ونفس الفترة المطرب الكبير محمد قنديل بأغانيه الراقية:

سحب رمشه و رد الباب

كحيل الأهداب نسيت أعمل لقلبي حجاب وقلبي داب

رموشه تميل على خده جناح رفرف على ورده

ولو طلب القمر و ده أمل كداب أمل كداب

وكذلك المطرب محمد عبد المطلب:

ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين

وعشان أنول كل الرضا.. يومياتي أروح له مرتين..

من السيدة لسيدنا الحسين..

إن الرصد الشامل الدقيق لما أطلق عليه في هذه الفترة اسم الأغنية الشعبية يجعلنا ببساطة شديدة أمام فن خالص له مقوماته الفنية الواضحة من كلمات وموسيقى وتوزيع، كما أنه يعكس قيم مجتمع له قواعد في الكلمات والألفاظ  المعاني، ويستحيل أن تسمع منها كلمة لا تليق، بل تتعجب من رقي هذه الكلمات، وحفاظها على تقاليد وقيم الأسرة المصرية والعربية.

كده برضه يا قمر

أتذكر هذا التراث من الغناء الشعبي لمطربين كبار، بعد ما تابعنا خلال الأيام الماضية قرار نقيب الموسيقيين الفنان هاني شاكر –وله أغنيات يمكن تصنيفها شعبية ( كده برضه يا قمر نموذجا)- منع مجموعة ممن أُطلق عليهم  مطربين شعبين في السنوات الأخيرة، ومعركته مع رجل الأعمال نجيب ساويرس الذي عارض القرار وانحاز لمن يسمون مطربي المهرجانات وأصبحت المعركة “حديث المدينة” في مصر.

ورغم إيماني بأن هذا القرار لن يؤثر في انتشار ما أطلق عليه ( مهرجانات أو أغاني مهرجانات)، والاعتذار واجب هنا لكلمة أغنية، بل سيساعد في انتشار أكثر لكل هؤلاء فالممنوع مرغوب، وما بالمنع يتم القضاء على الظواهر السلبية.

إن الطريق الوحيد لمواجهة الظواهر السلبية والسلع الرديئة، هو تقديم السلع الجيدة ودعمها بمساحات انتشار واسعة، وقبل كل ذلك توفير حالة اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية متوازنة تستطيع الكلمة واللحن والسينما والإعلام أن يعبروا عنها بحرية..

ما هذا الإنتاج إلا تعبير عن مجتمع.. أما إذا فقد المجتمع أمانه الاقتصادي تغيرت معاييره، وإذا فقد حريته تغيرت قيمه، وإذا فقد قيم احترام العلم والأخلاق والدين والأسرة، اختلت معايير المجتمع وصار مجالا خصبا لكل السلوكيات غير السوية، وبالتالي تدهور الإنتاج الفني والثقافي الذي يعبر عن هذا المجتمع.

قد يعتبر البعض أن تلك معركة حداثة، أو معركة بين القديم والحديث، شبيه بتلك المعارك التي حدثت مع ظهور سيدة الغناء العربي في عصر مطربة ثلاثينيات القرن العشرين منيرة المهدية التي اعتبرت ما تقدمة أم كلثوم ليس غناء.

تكررت المعركة مع ظهور جيل عبدالحليم حافظ، الذي يغني من ألحان محمد الموجي وكمال الطويل أغانٍ قصيرة وخفيفة، ونفس الحالة لمطرب كبير مثل محمد فوزي الملحن و المغني، أو مع منير مراد كملحن وظهور ليلى مراد ( يمكننا اعتبار أغنية -أعز من عيني- لليلى مراد أغنية شعبية).

هي المعركة التي ظهرت مع كلمات عبد الرحيم منصور وألحان أحمد منيب وأحمد الحجار مع مطربين بحجم على الحجار ومحمد منير، ولا أنكر أنني مثلا في منتصف الثمانينات كنت أرى أن محمد منير ليس مطربا ولا مغنيا..

قد تشبعت وعشت طفولتي على غناء آخر وكذلك مع أول ألبوم غنائي لعلي الحجار، ( صار منير والحجار بعد ذلك تعبير عن جيلي وصارا من أقرب أصدقائي على المستوى الإنساني).

بل إن أغاني منير وعلى الحجار ممكن أن تكون شريط الصوت الموازي للأحداث في حياة جيل كامل.

وتستمر المعارك بظهور عمرو دياب و جيل تامر حسني، و ما بعده .. هناك من الجمهور حتى الآن لا يري في بعض المطربين الحقيقيين مطربين أصلا، معارك القديم والحديث ليست هي المعركة القائمة حاليا.

إنها ليست معركة بل هاشتاج ربما يستمر بضعة أيام ثم يختفي، وقد نعرف ما وراءه أو لا نعرف، لأننا في عالم تُحجب فيه المعلومات أكثر من انتشارها، رغم انتشار وسائل المعلومات (الحجب في بعض المجتمعات العربية وسيلة لمنع وصول المعلومات).

الفلكلور الشعبي

البحث الهام عما يمكن تسميته أغنية شعبية قدمه الباحث الشعبي الدكتور شوقي عبدالحكيم في موسوعة من عدة أجزاء عن الأغنية الشعبية (موسوعة الفلكور الشعبي)  أهداني إياها في عام 2001 خلال زيارة لمنزله) .. استطاع شوفي عبدالحكيم  أن يجمع التراث الشعبي للأغنية الشعبية، و تستطيع أن تكتشف أن معظم ما قدم على مدار سنوات الستينات و السبعينات من أصول تراثية شعبية هو ما يمكن أن  نطلق عليه أغنية شعبية.

هل يمكن اعتبار سيرة بني هلال، وما فيها من قيم ومعان تراثا غنائيا شعبيا؟ نعم هذا تراث غنائي شعبي، وهنا نذكر سيرة على الزيبق، والزير سالم، وسيرة سيف بن زي يزن، كل هذه الملامح أنشدها مطربون ومداحون  ومغنيون شعبيون بل إن مطربة بحجم ( خضرة محمد خضر) قدمت غناء شعبيا راقيا، ومعها نضع محمد طه و يوسف شتا وغيرهم.

هناك محاولات حديثة قام بها ملحنون مصريون على غرار موسوعة شوقي عبدالحكيم لكن هذه المرة غنائيا، ولا يزالون يحاولون تجميع هذا التراث ( الملحن محمد عزت مثالا)..

وهو الملحن الذي قام بتلحين أغنية يمكن أن نطلق عليها أغنية شعبية، من كلمات فؤاد حداد  وغناء على الحجار أغنية ( العروسة).

العروسة اللي بتغسل خلجاتها في خليجي

من شفايفك تمر معسل دوقي قلبي خس مليجي

آه يا هز النخل جيبلي.. طرح بحري وطرح قبلي

والفقيرة تحتكملي في المراية اللي تزغلل..  يا العروسة،

أي محاولة لتغيير دفة الغناء أو الدراما، أو أي نوع من الفنون دون تغيير جذري في المجتمع لا يمكن أن تتم، بالمنع، والحبس لا يمكن أن يكون وسيلة لغياب ما نمنعه أو نحبسه، وإلا سنرى فنونا وعلوما شبيبة بتلك التماثيل التي أصبحت تشوه معظم ميادين المحافظات المصرية. يبدو أن التشوية أصبح هدفا!

المصدر : الجزيرة مباشر