أنا والجزيرة في عيدها الفضي!

قبل عدة سنوات كنت في زيارة إلى لوكسمبورغ الدوقية الأوربية الصغيرة، وفي المساء بحجرة الفندق رحت أقلب في قنوات التلفزيون بحثا عن قناة أشاهد فيها أخبار اليوم، وإذا بمفاجأة قناة الجزيرة باللغة العربية تظهر أمامي، ومع كثرة الترحال والتنقل كنت أبحث عنها في أي فندق، ووجدتها من قرى التيرول الجبلية في النمسا إلى فنادق لندن الفخمة، فهي موجودة في كل مكان!

لم أكن أعرف أنها متاحة على الكابل في ألمانيا، فعندما تعقدت الأمور يوماً ماً ولم يعد الطبق اللاقط يلتقط الفضائيات العربية، قال لي جاري الألماني إن قناة الجزيرة موجودة على الكابل مع القنوات الألمانية، وبالفعل وجدتها وازدادت دهشتي أنه يعرف أن قناة الجزيرة موجودة!

تعدت شهرة القناة الآفاق وكنت في كل مرة أندهش من أن هناك من يعرفها من الأوربيين، وأصبحت الجزيرة اسما عربياً مشهوراً..

كنت أتعجب كيف عرف هؤلاء الأوربيون قناة الجزيرة؟ فهي متخصصة في الأخبار العربية قبل أن تتوسع شبكتها وتتعدد اللغات التي تبث بها، وفي الرحلات الصحفية التي أقوم بها في مختلف الأقطار الأوربية وعندما كنت أتبادل الحديث مع الصحفيين كانوا كلهم يعرفون قناة الجزيرة وإمكانياتها الإعلامية الواسعة، ولا يعرفون أي وسيلة أخرى عربية رغم الانتشار الكبير لها الآن.

إلى العالمية

قناة الجزيرة هي قناة فريدة لآنها استطاعت أن تصل إلى العالمية في وقت كنا نحن سكان الأقطار العربية لانجد مصدرا عربياً صادقاً، فكنا نلجأ إلى الإعلام الغربي لمعرفة حقيقة ما يجري في بلادنا وكنا وقتها نستمع إلى الراديو في إذاعة البي بي سي في عصرها الذهبي وإذاعة مونت كارلو قبل أن تبدأ الفضائيات في الظهور.

أثناء غزو العراق سنة 2003 برزت القناة مرجعا أساسيا في تغطية الحرب، تلجأ إليها القنوات الأخرى لمعرفة ما يدور في الأراضي العراقية، وتفوقت القناة على نفسها، وكنا لا نغلقها طوال اليوم، وأتذكر هنا -في ألمانيا- قبل أن تنتشر الجاليات العربية كان الأتراك يفتحونها في مقاهيهم رغم البث بالعربية.

ومن قبل بات للمحطة سمعة دولية كبيرة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر وكل ما تلاها من احداث، واكتسبت اهتماماً دولياً كبيراً، وكانت هي القناة الوحيدة التي استطاعت تغطية الحرب في أفغانستان، ثم برزت مرة أخرى أثناء تغطية ثورات الربيع العربي واكتسبت اهتماما عربيا كبيرا رغم كم الهجوم الذي تعرضت له.

باتت قناة الجزيرة جزء لايتجزأ من حياتنا اليومية في الغربة، نشاهد أخبارها المسائية يومياً من مصدر عربي يتحدث نفس اللغة بشكل حرفي متقن، يحترم عقل المشاهد ويتأكد من صدق المعلومة قبل بثها، وبدأنا عصرا جديدا من احترام المعلومة وصدقها، وقبلها احترام المشاهد.. ولم يكن غريبا تمسك المشاهد بالجزيرة رغم عشرات القنوات التي انطلقت لمنافستها من دون أن تنجح في مسعاها لجذب المشاهد بسبب سطحيتها، وتحولها إلى أبواق حكومية كعهد القنوات الأرضية التي ما زالت محدودة ومقيدة بأوامر ورقابة الحكومات الديكتاتورية.

أصدقاء من طرف واحد

عرفت قناة الجزيرة مبكرا جدا، ففي سنة 1997 حيث شاهدت إعلاناً منشوراً للقناة في جريدة الأهرام المصرية التي كنت أحصل على نسخة يومية منها هنا في ألمانيا، فكان الإعلان ينوه عن أحدث قناة عربية فضائية متخصصة في الأخبار والبرامج الإخبارية والندوات السياسية،  بمساهمة نخبة من الصحفيين والإعلاميين العرب والمراسلين المنتشرين في معظم العواصم العالمية والعربية، وكان هذا إعلانا مختلفاً لآنه لم يكن مرتبطاً بقناة محلية بل بقناة واعدة  تطلب صحفيين مهرة من كل مكان ، وبما أني من الذين اشتركوا في هذا الإعلان، فمازلت أحتفظ به حتي اليوم كتذكار لأول قناة عربية إخبارية.

لم أر قناة الجزيرة رأي العين، ولم أشاهد مبانيها، لكن بقي في الذهن وصف الرئيس الأسبق حسني مبارك عندما زارها سنة 1999 بانها كعلبة كبريت صغيرة الحجم.. لكنها تسبب الكثير من المشكلات!

لم يكن الحجم دليلا إطلاقا على الكفاءة، فكثيراً ما نشاهد صروحا إعلامية فارغة من الداخل، خاوية من الفكر، بها أحدث الإضاءات والاستوديوهات ولكنك لا تستطيع أن تصمد دقائق أمام البث المزيف ووصلات النفاق والمديح لساعات يومياً.

أصبح مذيعو الجزيرة أصدقاء لنا من طرف واحد،  يشاركوننا جلساتنا كل مساء، نراهم ولا يرونا، ونستمع إليهم ولا يستمعون إلينا، وأتذكر يوما في سنة 2016 أن وقع حادث اطلاق نار في ميونيخ ورن التليفون وفجأة وجدتني على الهواء مباشرة مع نجم أخبار الجزيرة الكبير جمال ريان يسألني عما يحدث في ميونخ، فارتبكت قليلا فقد رأيته مئات المرات في نشرة الأخبار وهو يحاور ويسأل وفجأة أنا معه على الهواء، فقلت له إن هناك أخباراً نقلتها صحيفة ألمانية في التو بأن هناك 7 قتلي حتي الآن فقال بلهجته الحازمة- ماذا تقول صلاح .. صلاح: كررها بلهجته الجادة للغاية .. تقول إن هناك 7 قتلى، وسأل بصيغة التأكيد،  فقلت: له نعم إنه يظهر الآن على موقع الجريدة..  منتهي الجدية وقوة الأداء كان يتحدث ويدير الحوار.

خاضت الجزيرة حروبا عديدة ممع أصدقاء وأعداء ولم تحيد أبدا عن موقفها، واختلف معها جَمع في منطقة يحكمها الرأي الواحد، فبات شعارها الرأي والرأي الآخر، وهي مقبولة في الغرب الذي يؤمن بالرأي والرأي الآخر أكثر من قبولها من أنظمة الحكم في المنطقة التي تبث منها.

لم يكن إيمان الجزيرة في احتضان الآراء المخالفة سهلا لأنه منذ نشأتها وحتى الآن، وهي تثير الجدل، وفشلت كل محاولات ترويضها، فكل عام والجزيرة بخير، مع التمنيات بالاستمرار ومزيد من التوفيق والنجاح.

المصدر : الجزيرة مباشر