نهاية عصر الصين.. ونحن أيضا!

البون شاشع بين الواقع وطموح الرئيس الصيني

وجه صديقي رجل الأعمال نداء عاجلا لزملائه المستوردين من السوق الصينية، التي تزيد تعاملاتهم عن 150 مليار دولار سنوياً، بضرورة توخي الحذر خلال الأيام المقبلة.

قال الرجل الذي يعد ضمن المعدودين من المحظوظين الذين يمكنهم البث المباشر عبر حسابه على الفيس بوك واليوتيوب، من داخل الصين من دون التعرض لمضايقات من الدولة: “لقد أمرت السلطات المحلية مئات المصانع بأن توقف عن العمل لمدد تصل إلى 6 أيام في الأسبوع وتعمل بعض المصانع والشركات لمدة يومين أو ثلاثة أسبوعياً على الأكثر”.

حذر الرجل من تأخير وصول المنتجات الصينية إلى الأسواق العربية، لأن الصين تشهد أزمة خطيرة في الطاقة، مع ارتباك شديد في حركة الشحن التي ظهرت منذ عدة أشهر، بما سيرفع حتما أسعار السلع ويعرضها لعدم الوصول للأسواق العربية والمصرية في المواعيد المحددة للتسليم.

إنذار الرجل المقيم في الصين منذ سنوات، وجهنا إلى أهمية المتابعة الدقيقة لما يحدث هناك حاليا من حالات انقطاع في التيار الكهربائي، الذي طال خلال الأسبوع الماضي 20 مقاطعة من بين 32 مقاطعة تتشكل منها الدولة الصينية وأدى إلى إغلاق مصانع عملاقة وحالة إظلام تام في آلاف القري والبلدات الصغيرة وأحياء كاملة بالمدن الكبرى حتى وصلت الأزمة للعاصمة بكين ذاتها. جاءت الأزمة مع دخول موسم الشتاء وانخفاض درجات الحرارة في المناطق الشمالية التي يقيم بها نحو 100 مليون شخص إلى ما دون الصفر بنحو 10 درجات، ستزداد في نصف الصين الشمالي إلى ما دون 30 درجة مئوية خلال شهر ديسمبر المقبل، فذكرتنا بما عايشناه منذ عشرين عاما.

الخوف من ركوب المصاعد

اعتدنا مطلع القرن الحالي، خلال الإقامة في بكين على انقطاع التيار الكهربائي، بسبب تقادم محطات وشبكات الكهرباء، وارتفاع معدلات الاستهلاك التي واكبت القفزة الاقتصادية الهائلة، في فترة العصر الذهبي للنمو الصيني الذي انطلق مع بداية التسعينيات من القرن الماضي. لم يكن هناك فرق في الإقامة بين مناطق وسط المدينة حيث البرلمان ومجلس الدولة والوزارات، والأماكن النائية، فالدولة كانت تحرص على توجيه الناس بحمل كشافات الإضاءة في حقائبهم والشموع في أدراج منازلهم، لاستعمالها، في حالة انقطاع التيار الذي كان يستمر لعدة ساعات.

كنا نخشى ركوب المصاعد، رغم الإقامة في فنادق 5 نجوم وسلالم مترو الأنفاق ذي الخطين اللذين أقامهما الروس، قبل أن يصبح 22 خطا في بكين وحدها، مع ذلك اعتاد الناس انقطاع التيار كروتين يومي، ويصبرون على ذلك، لأنهم يرون بلدهم تتطور، فهي تغلق محطات الفحم لتنشأ أخرى تعمل بالغاز أو السولار، من أجل تحسين البيئة، استعدادا لأولمبياد بكين التي أجريت عام 2008.

انفقت الدولة مئات المليارات من الدولارات، لوقف انقطاع التيار، باعتباره معيارا مهما في التقدم الصناعي والاجتماعي، في دولة خططت منذ سنوات أن تقود العالم قبيل حلول منتصف القرن الحالي. أصبح انقطاع التيار خلال العقد الماضي أمرا منسيا، لدرجة تجاهل المنشآت الحديثة وخاصة الأبراج الشاهقة وناطحات السحاب تركيب مولدات كهرباء احتياطية، على اعتبار أن تلك المشكلة لن تحدث أبدا في دولة تخطط لإدارة أمورها بروية وعمق.

بوادر الأزمة

ظهرت بوادر الأزمة الجديدة منذ أشهر، مع مطالبة الحكومة البلديات بخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الهواء، استعدادا لتحسين حالة الجو، الذي يعرف في هذا التوقيت سنويا ظاهرة ” السحابة السوداء” حيث تبدأ الشركات والبيوت التقليدية تشغيل أنظمة التدفئة التي تعمل بالفحم، مع زيادة التوليد من محطات الفحم التي تمثل نحو 60% من قدرات التوليد بشبكة الكهرباء الصينية. هذه الظاهرة تحول بكين إلى مدينة رمادية، لا ترى فيها شمسا، ولا ينفعك ضوءً من شدة العتمة التي تسببها ذرات الفحم المتطايرة، التي تلطخ الجميع بالسواد، وتسبب اختناقا للمواطنين بما يدفع الحكومة إلى منع الناس من الخروج إلى المدارس وكثير من الأعمال لعدة أيام.

تقبل الناس انقطاع التيار المتكرر على مضض، رغبة في خفض التلوث البيئي ودعم مشروع الحكومة لاستقبال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية العام المقبل 2022. دفعت الأزمة المواطنين إلى التساؤل، لماذا نعيش في البرد القارس ونحن على أبواب الشتاء؟ فإذا كانت الدولة قاطعت استيراد الفحم من أستراليا بعد شرائها الغواصات النووية من إنجلترا، فما ذنبهم أن يتحملوا البرد وتوقف أعمالهم، خاصة أن الكهرباء لا تنقطع عن مكاتب المسئولؤن وقيادات الحزب الشيوعي المتحكم في كل أمور الدولة؟!
هناك قناعة لدى كثير من المواطنين بأن اقتصاد الدولة تحمل خسائر بلغت تريليوني دولار خلال الشهرين الماضيين فقط، بسبب سياسات الحزب التي قادت البلاد لهذه المصيبة. فقد أراد الرئيس شي جين بنينغ إعادة تشكيل بيئة الأعمال، مدفوعا بالرغبة في سيطرة الدولة على الاقتصاد، وتطبيق شعار “الرخاء المشترك”، ومواجهة العجز الخطير وتراكم ديون الموازنة العامة والشركات والبنوك الكبرى.

الواقع وطموحات الرئيس

فالرئيس يريد أن يوسع دائرة المستفيدين من كعكة العملاق الصيني بإنصاف بين المواطنين، ليصبح” بطل الفقراء” وخليفة الزعيم التاريخي ماو زي دونغ. فقد ظهرت أمامه الفجوة الهائلة بين الاشتراكية المعلنة والواقع الصيني، فالبلد رأسمالي يوفر حماية أقل للفقراء، بينما يملك 1٪ من الشعب 30٪ من الثروة القومية. فالحاجة إلى الرخاء المشترك دفعت الرئيس إلى تطبيق إجراءات حاسمة ولكنها كما يرى الخبراء، متعجلة جدا في الحلول، بما دفعه إلى ترك الشركات الكبرى تتعرض للانهيار، مثل ” إيفرغراند” رغم تأثيرها سلبا على أموال الدولة وملايين المساهمين، وضيق الخناق على شركات التكنولوجيا، وزاد من رقابة الأمن على الإنترنت وحركة المواطنين، وحول كلامه إلى كتب فكرية اشتراكية تدرس قسرا للأطفال في المدارس وللشباب في الجامعات.

البون شاسع بين طموحات الرئيس والواقع، فهو يعتبر أن الديون المتزايدة التي بلغت 2.8 تريليون للقطاع العقاري وحده، هي نتاج المضاربة المالية في السوق بما يشكل استهزاء بالماركسية اللينينية وهي العقيدة السياسية للحزب. لذلك ترك الشركات تدمر فجأة رغم أن قيادات بالحزب والحكومة صنعت هذه الأزمة عبر سنوات، ويطيح بكل معارضيه، ويحبس رجال الأعمال الذين يخالفونه. تسببت القرارات العدوانية تجاه الجميع، في ارتباك الأسواق، فالصين التي وضعت خططا لإعادة ترتيب العالم منذ سنوات، أصبحت اليوم تبدو غير قادرة على ترتيب شئونها الداخلية.

فقد تبين أن أحد أسباب انقطاع التيار الكهربائي، في 20 مقاطعة وراءه ذعر الموظفين البيروقراطيين في الأقاليم، الذين أدركوا أنه من المحتمل ألا ينفذوا خطة الرئيس بخفض معدلات الكربون، التي تعهد بها مؤخرا في خطابه للجمعية العامة للأمم المتحدة، فأوقفوا محطات توليد الكهرباء من الفحم ومصانع الإسمنت والحديد والألمونيوم. يخشى هؤلاء اتهامهم بالانحراف الأيديولوجي، وتعرضهم للسجن أو العقاب والتجريس في الميادين العامة، أسوة بما كانت تجريه محاكم التفتيش الكنسية في أوربا في العصور الوسطى، بما يصيب الموظف وعائلته بالعار. كما تواجه البلديات أزمة مالية حادة بعد توقف مبيعات الأراضي التي شكلت 70٪ من مواردها خلال العقد الماضي، وانخفاض أسعار العقارات والركود، حيث كانت تشارك في ملكية الشركات العقارية الكبرى المنهارة، بينما ارتفعت أسعار البترول والغاز المستوردة بنسبة 50 ٪ من بلاد العرب، وتضاعفت تكلفة إنتاج الطاقة المتجددة بينما تحدد الحكومة سقفا منخفضا للبيع.

فالصين وفقا لتقرير موسع لمجلة فورن أفيرز الأمريكية” Foreign Affairs”  تبدو في عجلة من أمرها لقيادة العالم، مع ذلك فإن صعودها انتهى تقريبا”. ووفقا للتقرير: “إن الصين تخفي تباطؤا اقتصاديا خطيرا وتنزلق مرة أخرى إلى نظام شمولي هش”. يخلص التقرير إلى أنه “نهاية العصر الذهبي لصعود الصين”، وهي نتيجة نراها أقرب للواقع وتتكرر أمام أعيننا في مجتمعاتنا، ولاسيما مع نظام يعتمد في بقائه على حكم الفرد الديكتاتور، والطائفة وسياسة القبضة الحديدية، بما يحتاج إلى متابعة أخرى في المرات التالية.

المصدر : الجزيرة مباشر