معصوم مرزوق المقاتل السفير

المعارض المصري السفير معصوم مرزوق
السفير معصوم مرزوق

يبدو لي دائما أنه لم يغادر جبهته التي اختارها منذ أكثر من خمسين عاما حينما اختار أن يترك دراسته في كلية الهندسة ويذهب إلى الكلية الحربية ليشارك في معركة تحرير الأرض واسترداد النصر والكرامة.
خاض معاركه بنبل أبطال النصر الذين قدموا حياتهم في رضا ومحبة للوطن وفي معركة تيران وصنافير في عام 2016 كان يحمل مدفع الصاعقة وبنادق جنوده الأبطال خاض المعركة مدافعا عن الأرض.
في عام 2018 كان هناك شبه اتفاق بين القوى المدنية على ترشحه ممثلا لها في انتخابات الرئاسة وقبل الإعلان كان خالد علي يعلن ترشحه وفي اليوم الثاني اتصل هاتفيا بي: أنت فين؟
قلت له: في وسط البلد.
قال لي: تعالى أنا عند خالد علي أعلن تضامني معه وتأييده في الانتخابات.
تقابلنا في مكتب خالد كمرشح وحيد للقوى المدنية ثم سرنا معا حتى ميدان التحرير.
يومها لم أفاجأ بنبله وتسامحه بقدر ما أيقنت أنني أصادق شهيدا حيا يمشي بيننا بأخلاق الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إنه المقاتل السفير، المقاتل الأديب، المقاتل معصوم مرزوق.
في احتفالنا بنصر أكتوبر/تشرين الأول 1973 أتحاور معه عن الحرب والقتال والشهداء والأمل الذي لا يغيب عنه، قلت له:
يبدو لي أنه رغم كل الألقاب والصفات التي حصلت عليها، تبقي صفة مقاتل هي المحببة إلى قلبك والأكثر قربا إليك.
لم تكن تهمني الألقاب والصفات طيلة حياتي، فقد أطلق عليّ حيناً لقب “الباشمهندس “، ولكنني حزت بعده على لقب “فدائي” أثناء حصولي على فرقة الصاعقة الراقية، ثم لقب سفير، وبين كل هذه الألقاب، ظللت أفخر دائماً بصفة “المقاتل” شكلاً وموضوعاً.
أشرت إلى تحول حياته في لحظة معينة وتغيير اتجاهات حياته.
قال: كنت منذ طفولتي المبكرة، ونتيجة لظروف النشأة وما توافر لي من اطلاع، أتمني أن أكون مهندساً متخصصاً في صناعة الطائرات، وكنت دائماً أقول لمن يسألني: “أريد أن أصنع طائرة نهزم بها إسرائيل” وتمكنت من التفوق في الثانوية العامة والانضمام إلى كلية الهندسة جامعة عين شمس، ولكن بعد نهاية العام الأول لي في إعدادي هندسة، كانت حرب الاستنزاف على أشدها في الجبهة، وكنت أتابع المعارك التي يخوضها رجالنا وأشعر بالعار لعدم مشاركتي معهم، فسارعت بسحب أوراقي من كلية الهندسة وتقدمت بها إلى الكلية الحربية.. وكانت بلا شك لحظة فارقة في حياتي.
سجلت وتسجل دائما مواقف من الجبهة وتعايش شخصيات بطولية في حياتك في لحظة فارقة ومواقفها أثناء الاستعداد للحرب وخلالها.
قال: منذ أن انتهت حرب أكتوبر، وعودتي منها حياً، آليت على نفسي أن أكتب بشكل كثيف عن هذه الحرب، أن أسجل كل ما رأيته وسمعته وشعرت به، كنت لا أريد لهذه الملحمة التي عايشتها أن تتبخر في فضاء الزمن، كي تظل وثيقة أمام الأجيال القادمة، وفاءً لذكرى أغلى الرجال رفاق السلاح.
وقد قمت أيضاً برسم بعض اللوحات في شكل قصص قصيرة شاركت بها في مسابقات “أدب الحرب” وفزت فيها أكثر من مرة بالجائزة الأولى، كي تصبح الوثيقة فنية بقدر ما هي تاريخية.
كنت أحاول أن أقترب بالصورة من وهج يكشف معادن الرجال، ولا يكاد يمضي أي وقت دون أن أجد قلمي منساقاً، كي أكتب عن هذه الفترة الذهبية من تاريخ نضال الشعب المصري.
بطولات حقيقية للمقاتل المصري ظهرت على مدار فترة السنوات الست من يونيو 67 وحتى 24 أكتوبر 73، أعتقد ان هذه البطولات لا تفارق وجدانك.. وبالتأكيد هناك لحظات معينة لا تنساها منهم.
أتذكر لقد أحضر لنا قائد الكتيبة صباح يوم 6 أكتوبر كمية كبيرة من البلح وأخبرنا بقرار الحرب، وقال إن هناك فتوى دينية تتيح لنا أن نكسر صيامنا، وقد كدنا نطير من فوق الأرض في تلك اللحظة، وقد أخذ بعضنا بالرخصة وأفطر (وكنت أنا واحداً من هؤلاء)، بينما رفض البعض الآخر.. ومن الملاحظات التي لم أجد لها تفسيراً حتى الآن، أن أغلب من رفضوا كسر صيامهم وعبروا دون إفطار، استشهدوا في اللحظات الافتتاحية في الحرب بعد عبور القناة، لذلك أكرر دائماً أن الله سبحانه وتعالي قد أختار أفضلنا ومنحهم الشهادة.
أتذكر مصطفى الحادي، وكانت وظيفته حامل قاذف مضاد للدبابات (آر. بي. جي)، وكان قد انضم قبل الحرب بفترة وجيزة، ولم يكن يحرز أي إصابة في التدريب، رغم تركيزي معه، ولذلك كنت أعتبره عندما بدأت الحرب “فردة نايمة” لا يمكن أن أعتمد عليه، لكنه ليلة 17 أكتوبر خلف خطوط العدو، فوجئنا جميعاً بأنه يقذف دبابة كادت تقضي علي الكمين الذي نصبناه ويدمرها، كذلك في معركة طاحنة أمام قيادة الجيش الثالث، نجح مرة أخرى في تدمير دبابة كانت قد التفت حول موقعنا، كان مصطفى يناديني فرحاً وكأنما يريد أن أتأكد أنه جدير بثقتي، وفي نفس اللحظة كان العدو يرميه بكل حنق بعدة طلقات من النصف بوصة التي اخترقت جسده.. لقد قلت عنه إنه تبخر في سماء الوطن كي يظل جزءاً من الأثير الذي سنظل نتنفسه.
أشرت أن أشد المعارك كانت بعد توقيع إتفاقية وقف إطلاق النار.
لقد عدت مساء يوم 22 أكتوبر مع رجالي من كمين ضد دبابات العدو في الشلوفة، كي يتم تكليفي بإعداد كمين علي تقاطع المدق 12 مع المدق المؤدي إلى “هارلم” أو القيادة المتقدمة للجيش الثالث وقد علمنا في تلك الليلة أن مجلس الأمن قد اتخذ قراراً بوقف إطلاق النار، وحيث إنني كنت ليلتها ما زلت أسمع صوت قذائف العدو حولنا في كل مكان، فقد رفضت طلب رقيب الفصيلة (الشهيد عبد العزيز رضوان) بأن يتخفف الجنود من أحذيتهم، فضلاً عن أن العدو ما زال يتقدم حولنا بلا توقف، ( قبل الفجر، مررت علي الرقيب رضوان في حفرته كي أطيب خاطره، وكانت آخر مرة أراه قبل استشهاده في اليوم التالي).
لقد كتبت كثيراً عن المعركة التي خضتها مع رجالي ظهر يوم 23 أكتوبر وكذلك مساء نفس اليوم على طريق القاهرة/السويس، ثم صباح يوم 24 أكتوبر على تخوم السويس وطريق ميناء الأدبية، ورغم انقطاع الاتصال مع قيادتي، إلا أنني شعرت رغم صغر رتبتي بأنني مسؤول عن حماية السويس، وقلت لمن تبقى من رجالي حياً أن نتأهب للشهادة.
أعرف أنك تعاود الاتصال بين الحين والآخر بمقاتلين ومحاربين قدامى.
من المحزن أنه لم يتبق منهم الكثير، وكان لقائي بهم يعزيني ويعيدني معهم إلى تلك الفترة الثمينة التي تشاركنا فيها، لقد عادوا من الجبهة كي يواجهوا أعباء الحياة، وكان أغلبهم شباب في مقتبل العمر، وقد تمكن بعضهم من اجتياز العقبات التي واجهوها، بينما تعثر بعضهم، لدرجة أننا كنا أحياناً نتندر قائلين إن “عبور أهوال قناة السويس وخط بارليف، أهون من عبور مصاعب الحياة”.. وفي الحقيقة لم يكن لأي مقاتل عرفته أي مطالب ذاتية، بل ظلوا يعيشون حتى نهاية حياتهم في الظل حتى غادرونا.
روح أكتوبر التي نظنها غائبة وتؤمن أنت وتوقن أنها موجودة داخل هؤلاء الذين يمشون في الشوارع والحارات ولا نشعر بهم.
روح أكتوبر غائبة/حاضرة، ويكفي أن تراقب ملامح أي مصري حين ينصتون للأناشيد والأغاني التي صاحبت العبور، حتى أولئك الذين لم يعيشوا تلك الأيام العظيمة، لا يزالون يشعرون بالفخر بالانتصار الذي أحرزناه، ورغم محاولات التشويش على العبور من بعض الانهزاميين من ممثلي العدو ووكلائه المحليين في كل قطر عربي، فإن روح أكتوبر تتبدى كلما ظنوا أنها تتبدد، لقد أثبت العبور أن لدينا القدرة على النصر واجتياز أصعب الموانع، ومهما حدث فإن الوجدان الشعبي متشبع بهذه الحقيقة، ممتزجة بتراثها التليد.
الأن وبعد 48 سنة من حرب أكتوبر التي اعتبرها حرب الجنود وربما لك رأي أخر، لا زالت تحلم بدخولك القدس محررا لها مع الداخلين.
لقد كانت حرب شعب مصر كله، طبعاً الجنود كانوا في المقدمة طليعة ورأس حربة، ولكن كيف يمكن لأي منصف أن ينسي صبر هذا الشعب وإصراره كي نصل إلى جسور العبور، كيف يمكن أن ننسى دور المهندسين والعمال في بناء قواعد الصواريخ تحت القصف الوحشي للعدو، لقد كانت سيمفونية رائعة شارك فيها كل مصري بما يستطيع كي ننتصر.. وانتصرنا معاً..
نعم لم أتخل عن حلمي في تحرير القدس وأمنيتي أن أكون ضمن محرريها حتى آخر لحظة من عمري، ولدي يقين أن ذلك اليوم قادم سواء رأيته أم رآه الأبناء والأحفاد.
رأيت عملية نفق جلبوع وهؤلاء الأبطال الست الذين كسروا حائط الصمت العربي وهزموا كل ما يدعيه العدو من تقدم في أجهزة تأمينه وأمانه.
لقد كان توقيت هذه العملية عبقرياً، لأنه كان بمثابة صفعة على كل من انتفخت أوداجهم بمزامير الانهزام وارتضوا الدنية في دنياهم، لقد أرسلوا رسالة للرد على تلك الأصوات التي ارتفعت منادية بالتطبيع مع العدو، عملية نفق جلبوع بغض النظر عن نتيجتها المباشرة، مثل عبور قناة السويس كسر جديد لنظريات الأمن الإسرائيلية وبشرى بما هو آت.
لحظة غائمة كانت لحظة دخولك إلى القوات المسلحة، هناك تشابه بينها وبين هذه اللحظة التي نعيشها، أملك في النصر كان كبيرا يومها.
لا أفقد أبداً يقيني بأن النصر هو إرادة متجددة لدى الشعوب الحية، والشعب المصري لديه هذه الإرادة بشهادة التاريخ نفسه.

المصدر : الجزيرة مباشر