فيلم “أنا سام” اللوحة التي كشفت إعاقة الأب

لهذه الأسباب لم تتحوّل قضية المعاقين عقلياً إلى قضية مجتمعية عامة

من فيلم أنا سام

في سن مبكرة يعتمد الأطفال “الرّسم” للتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم. ليس كلّ طفل سيصبح رسّاماً في المستقبل، لكنّ الإنسان منذ بدء الخليقة عبّر عن طبيعة حياته وتفكيره بالرّسم على جدران الكهوف.

في الغرب “المتحضر” يستخدم المعلمون هذه المادّة للكشف عن طبيعة الطّفل ومستوى تفكيره والقضايا التي يعاني منها.

في فيلم “أنا سام” الذي يروي علاقة أب معاق “ذهنياً” مع ابنته التي تركتها أمّها له ساعة ولادتها رافضة تربيتها والبقاء مع أبيها. ترسم الطّفلة “لوسي” ابنة سام لوحة تمسك فيها يد أبيها وتبدو في اللوحة أطول وأضخم منه. تكتشف إدارة العناية بالطّفل أنّ اللوحة تشير إلى أنّ الأب يعاني من إعاقة عقلية فتقرر أخذ ابنته بعيداً عنه وتسليمها لأسرة تريد تبني طفلة وذلك بحجة أنّ بقاءها معه سيؤذيها ويعيق تقدّمها.

الإعاقة الذّهنية:

تعودنا في الشّرق _ربّما من باب الاستسهال_ أن نترك الأطفال المعاقين ذهنياً من دون عناية ليتراجع مستوى ذكائهم بدل أن يتقدّم نحو سن “السّابعة” وهي السّن التي يتوقف العقل فيها عن النّمو عند هؤلاء الذين يدفع بهم المجتمع إلى الشّارع ويتعامل معهم النّاس _وخاصة الأطفال_ على أنّهم مجانين، والملفت أنّ الشّعب العربي تحديداً يعتبرهم “مبروكين” ومنهم من تستمرُّ بركته حتى بعد الموت فتُبنى لهم قباب خضر فوق قبورهم يتبارك بها النّاس ويتركون عندهم “النذور”. لا أحد في مجتمعاتنا ينظر إلى “المعاق” على أنّه إنسان سوي وإن بدا شكله الخارجي مختلفاً قليلاً.. لكنّه إنسان مكتمل عاطفياً يتصرف بتلقائية تثير استغراب واستنكار من حوله؛ لأنّهم ينظرون إليه ويحاكمونه كما ينظرون إلى إنسان ناضج عقلياً. تلك الهوة العميقة بين البشر الأسوياء والمعاقين فرضتها طريقة التّعامل النّاتجة عن الجهل أولاً وعدم الاستعداد لتقبل الفكرة _فكرة كون هذا الإنسان طفل في جسد رجل_ صالح للزواج ويملك الاستعداد الكامل لتكوين أسرة!

هل يكفي النّضج العاطفي لتربية طفل؟

في حال وجود أم متوسطة الذّكاء أو ذات ذكاء مقبول قد يبدو الأمر معقولاً لكنّ قصة الفيلم قامت على طرف واحد معاق حين دخلت ابنته المدرسة وكُشف أمره أخذت حياته منحىً آخر، وجد نفسه فجأة مضطراً لرؤية ابنته تحت نظر شرطية تقوم بمراقبتها، خَدعت الطّفلة الذّكية الشّرطية بحاجتها لدخول الحمّام وهربت مع والدها بعد أن أقنعته أنّ الشّرطية سمحت لها. لكنّ الأب البسيط وبعد هروبهما ليوم كامل يعود إلى المركز ليعتذر، ثمّ يخضع لمحاكمة كي تثبت المحكمة أهليته للعناية بطفلته. تبذل محاميته جهداً كبيراً في تعليمه كيفية الإجابة على أسئلة المحكمة وفي إحضار شهود يساعدونها على كسب الدّعوى، جارته التي كانت تساعده في الكثير من الأمور أثناء تربيته لابنته، طبيبته النّفسية، وأصدقاءه المعاقين مثله والذين يجتمعون بشكل دوري لرؤية الأفلام ومناقشتها ويحفظون أحداثها غيباً وكأنّها حياتهم الخاصة.

السّؤال الذي وجهه محامي العائلة التي تريد تبني الطّفلة للأب كان حاسماً تقريباً في القضية: “ألا ترى معي أنّ ابنتك تستحقُّ أكثر مما تُقدِّمه لها؟”.

تأخذ العائلة الابنة بحكم المحكمة الذي تستأنفه المحامية. ريثما يحين موعد المحكمة التّالي يستأجر الأب بيتاً قريباً من بيت العائلة التي تبنّت ابنته ليكون قريباً منها. الابنة تهرب كلّ يوم لتنام عند أبيها ويعيدها هو. تلك العلاقة المعقدة بين الابنة والأب والمرأة التي تبنّت الطّفلة جعلت الأمور تسير نحو الحلّ بنفسها، إذ اكتشفت المرأة أنّ الطّفلة لا ترغب بالبقاء معها وأنّها تريد العيش مع والدها، طرقت بابه ليلاً وهي تحمل الطّفلة النّائمة وأعطته إياها واعتذرت عمّا كانت ستقوله عنه في المحكمة لتكسب القضية حينها ارتبك الأب، وقال متأثراً إنّه يعتقد أنّ ابنته بحاجة لأم، بحاجة لرعايتها هي، وهي حقّاً تستحقُّ أكثر مما يستطيع أن يمنحها هو!

قضايا مُعلّقة:

قد لا تحدث مثل هذه القصّة في بلادنا التي لا مجال فيها لمثل هذه العلاقات، فلا يوجد صاحب مصلحة يمنح عملاً وإن كان بسيطاً كعمل سام _نادل في مقهى_ لشخص معاق، في بلادنا، لا يستطيع المعاق أن يقبض راتباً ويعيش في منزل خاص به، ويعتني بشؤونه بمفرده. غالباً يعيش بين أفراد أسرته ترعاه أمّه، ثمّ أخته بعد وفاة الأم، ويحتويه الشّارع بهيئته الغريبة وملابسه المتسخة غالباً إن لم تكن ممزقة، ويضربه الأولاد أو يحبّونه بحسب نظام التّربية القائم في مكان تواجده، ثمّ يجده أحدهم ميتاً في زاوية شارع فرعي أو في المقبرة أو البريّة.

لم تتحوّل قضية المعاقين عقلياً إلى قضية مجتمعية عامة تتبناها مؤسسات الدّول وتسعى لخلق فرص عمل وعيش كريم لهؤلاء؛ لأنّ أنظمتنا مشغولة بما هو أهم، القضاء على أصحاب العقول والقدرات التي تستطيع تحسين مستوى البلاد واستيعاب قضاياها! إذ لا قوانين ضابطة ولا مؤسسات تحتوي هذه الشّريحة من المجتمع، وإن سُنّت قوانين في بلد ما في شرقنا تبقى قوانين غير مفعلة.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر