هل تتجه تونس إلى إغلاق قوس الانقلاب؟

تترادف مؤشرات كثيرة على الصعوبات المتنوعة التي يواجهها انقلاب قيس سعيد في تونس. المفرطون في التفاؤل يرونه قد سقط، وأن القوس قد أغلق وأن الديمقراطية عائدة لتستقر كخيار وطني وحيد.
الواقعيون -وأحسبني منهم- يرون إمعان الرئيس في مشروعه لتغيير النظام السياسي ويرون كلفة ذلك على البلد وخاصة كلفة الشرخ السياسي والعاطفي الذي أحدثه بين الناس. ويرون أن نهاية الانقلاب ظاهراً لن تمحو أثر القطيعة والبغضاء التي زرعها بما يجعل طريق الديمقراطية بعده مليئا بعقبات عسيرة على التجاوز. بين الإفراط في التفاؤل والواقعية نحاول قراءة المواقف وطرح السؤال عن جوهر المشكل الحقيقي في التجربة الديمقراطية التونسية.

مؤشرات التفاؤل المفرط؟

يبني كثيرون تفاؤلهم على الرفض الدولي للانقلاب. فلائحة البرلمان الأوربي الداعية إلى استعادة مسار الديمقراطية البرلمانية وتوصيات الكونغرس الأمريكي التي وضعت للرئيس شرطا زمنيا للإجابة عن أسئلة محددة خاصة دور المؤسسة العسكرية ومدى مشاركتها في حركته وربط ذلك بمواصلة الدعم العسكري لتونس. قرأت عند هؤلاء كصافرات نهاية اللعبة التي على الرئيس أن يسمعها بوضوح..

إلى ذلك يرى هؤلاء أن حديث الرئيس الاقتصادي ومراسيمه في الغرض كشفت جهلا مدقعا بأمور الدولة وتسيير حالة الهشاشة الاقتصادية (يتسرب كثير من حديث الشماتة من عجز الرئيس وجهله) خاصة لجهة موقفه المتنطع من مؤسسات الإقراض الدولية ومن مؤسسات التصنيف الائتماني التي يعاد إليها في إسناد الدعم والاقتراض من هذه المؤسسات. ويقولون غالبا سيسقطه جهله وفشله..

وإلى ذلك أيضا بداية تفكك الحزام السياسي الذي أسند الانقلاب في أيامه الأولى وبرره بسوء الأوضاع ما قبل 25-07. وكان آخر المنفضين شقا واسعا من النقابة تكلم يوم 23 -10 بحدة وحسم ضد مشروع قيس سعيد في تغيير النظام السياسي.

فقدان السند الخارجي وتفتت السند الداخلي والعجز عن مواجهة المعضلات الاقتصادية شكلت عند هؤلاء قاعدة لموقفهم المتفائل وهم في خطاب زهو يطفو على جملهم ويستعدون لما بعد الانقلاب ويبشرون باستقرار الديمقراطية ونجاة الدستور من العبث إذ لن يجرؤ أحد على مغامرة مماثلة بعد هذا السقوط. وقد بدأ بعضهم يقول (رب ضارة نافعة).

الواقعية مطلوبة في هذا المرحلة

من الواقعية السياسة عدم التعويل على موقف دولي معارض للانقلابات. الأنظمة الغربية لها حساباتها الخاصة وهي منكبة على رعاية مصالحها أولاً ولم يظهر حتى الآن أن الانقلاب قد أضر بها. لديها تخوفات من الهجرة السرية وهذه أمكن لها دوما احتواءها حتى مع نظام القذافي. لذلك نراها تزن مواقفها ولوائحها وتهدد بلطف أو تلمح تلميحا.

ومن الواقعية أيضا النظر في موقع القوة الصلبة من الانقلاب. إن وسائل القوة مملوكة للرئيس حتى الآن وقد يستعملها بأشد الأشكال فظاعة لمواجهة كل تصعيد في الشارع. وإلى ذلك ننظر إلى مواقع المال وأغلبه فاسد أو مشبوه وهذه القوى واقفة مع الانقلاب حتى الآن، لأن حديث ما بعد الانقلاب سيستعيد حديثا سبقه حول مقاومة الفساد وأمكن لها الإفلات منه بالانقلاب فإذا عادت المياه إلى مجراها السياسي فإن معركة حقيقية ستندلع ضد نظام المصالح وشبكات الفساد وهو ما يدفعنا إلى الظن أن هذه القوة الصلبة ستسند الانقلاب وقد اتعظت من تخليها عن (بن علي). إنه آخر أوراق نظام الفساد الذي زعم مقاومته فتبين أنه أداته الطيعة.

فضلا عن ذلك فإن الرئيس يحظى بدعم مطلق من الفرق الايديولوجية التي تعيش دوما من حرب الاستئصال، وهي وإن كانت قليلة العدد فإنها متمكنة من مفاصل الدولة والإدارة وتملك الاعلام وتوجه الرأي العام بفعالية (منذ الثورة) وتبينت قوتها أيضا بعد الانقلاب وهي أيضا ترى في الانقلاب آخر أوراقها وسقوطه يهدد مواقعها لذلك فهي تخوض إلى جانبه حرب حياة أو موت.

وربما علينا أن نضيف معطى على غاية من الأهمية وهو الكارثة الاقتصادية المتوارثة مما قبل الثورة والتي تعاظمت بعدها ووصلت بالبلد إلى حافة الإفلاس بعد الانقلاب. هذه الكارثة تسبب رعبا لكل فصيل سياسي يفكر أن يحكم البلد بعد الانقلاب لذلك فإن كثيرين يتخفون بذرائع مختلفة كي لا تقع كرة النار بين أيدهم وهذا يمد في أنفاس الانقلاب. ولهذا نفضل النظر بواقعية لما يجري ولا نميل إلى بناء تخيلات فرحة في أجل قريب.

على فرضية نهاية الانقلاب

هل يكون ذلك؟ ومتى يكون ذلك؟ مدار الخلاف هنا بين القراءة الواقعية والقراءة المفرطة في التفاؤل. أرى المرحلة القادمة بفرضية نهاية الانقلاب تحتفظ بكثير من عوائق السياسة من فترة ما قبل الانقلاب وهذا منذر بتواصل أزمة الديمقراطية في تونس. وقد أضاف الانقلاب أمرا جللا سيعسر تجاوزه في أمد منظور.

يواصل سياسيون كثر مجاملة النقابة واعتبارها شريكا في إدارة البلد بعد كل الكوارث الاقتصادية التي سببتها منذ الثورة. وقد كانت أكبر سند للانقلاب منذ يومه الأول ولولا موقف النقابة لسقط في أسبوعه الأول وما كان ليتجاوز الشهر. لا تجرؤ النخبة السياسية المعارضة للانقلاب بأعلى الأصوات إن تنبس بكلمة واحدة تجاه النقابة وهذه مهلكة سياسية (النخبة مرعوبة من التسلط النقابي). وأرى أن تشريك النقابة في أي حلول سياسية بعد الانقلاب سيعيد إنتاج الأزمات نفسها.

خطاب الاستئصال والممارسات الاقصائية الموجه تحديدا ضد الإسلاميين لا تزال متواصلة وهي تخترق حتى الصف المعارض للانقلاب وهناك من يكتب أن نهاية الانقلاب ستعيد التمكين للإسلاميين خاصة وأن حرب الفساد لم تمسك عليهم ما يدينهم. وهذه العاهة الاستئصالية في المشهد السابق والحالي والقادم (إن كان فعلا). كانت الأرضية الفاسدة التي بنى عليها الانقلاب مشروعه وهي في استمرارها لا تبني أرضية بديلة للخروج من واقع الانقلاب. فإذا بقي الانقلاب أو سقط فإن الاستئصال الذي أسس له باق وسيتمدد باسم منع الأخونة العائدة.

السنوات العشر الماضية علمتنا أن الساحة السياسية التونسية تشقها عاهة مستدامة هي وجود فريق استئصال يعيش فقط من حربه الخاصة وقد جر البلد برمته وراءه نظراً لمواقعه الاستراتيجية في النظام الإداري والسياسي والإعلامي خاصة.

من هذه الحرب (القذرة) خرج الانقلاب والمنقلب نفسه. لذلك نعتقد أن الانقلاب كان معركة ضمن هذه الحرب وما الرئيس فيه إلا فاصلة عابرة. وأوشك أن أقول متخذا زاوية نظر أوسع (تمتد إلى أول الدولة نفسها) إن الانقلاب لن يزول لأنه لم يقع أصلا.

لقد خاضت الديمقراطية معركة أخرى ضمن حربها من أجل استعادة حق جميع مواطني الدولة في الوجود والمشاركة. يوم تقضي الديمقراطية على بؤر الاستئصال في الخطاب والممارسة ستنتهي الانقلابات جميعها. حينها سنحول المنقلب إلى مسرحية عابثة لأطفال المدارس لتعليمهم أكثر صور الحمق إضحاكا.

متى يكون ذلك؟ البعض يراه غدا وربما لمع حذاءه ليلتحق بوزارة لكن سنوات الثورة وما قبلها علمتنا الصبر.

المصدر : الجزيرة مباشر