فيلم ريش.. دجاجة عمر الزهيري الصامتة!

دميانة نصار

لا أحب السير وراء الترند أو الهاشتاج، الذي يصعد بنا نهارا أو ليلا، ثم يختفي ويعود الصمت.. صمت الحركة والفعل هو أخطر ما يواجهه الإنسان المصري والعربي، ربما نجد صخبا في الكلام والحوار، والصراع اللفظي يقابله صمت حركي، يصل للموات في أحيان كثيرة.

هذا الصمت يملأ شاشة فيلم (ريش)، لمخرجه عمر الزهيري، ويحيط ببطلته دميانة نصار، كلاهما بصمتهما القاتم، أصبحا تريندين خلال الأيام السابقة.

الواقع أن علاقتي مع الهاشتاج علاقة هامشية، لكن لأنها سينما وفيها فيلم، فقد تابعت أحداثه من خلال محبة السينما، وهذه بعض الملاحظات عليه:

لغة سينمائية عالية

أهم ما يميز فيلم ريش، هو اللغة السينمائية العالية، فنحن أمام مخرج يعرف ماهي السينما وأدواتها، التي تقع في مقدمتها الصورة السينمائية، فالصورة في الفيلم هي الأساس، حتى يخيل لي أن المخرج كتب سيناريو الصورة، ونسي أن يكتب الحوار، فجاء الحوار قليلا لدرجة الندرة.

راجعت نفسي قليلا وحاولت رصد القديم، وجدت أن أصعب حوار في السينما هو حوار الصمت عندما يفقد الممثل الكلام، يصبح أمام اختبار حقيقي لموهبته، وما من ممثل أو ممثلة أدى دورا صامتا، إلا حصل على جائزة من النقاد، أو من الجمهور، وفي الذاكرة فيلم (الخرساء) للممثلة المصرية سميرة أحمد، الذي أنتج في 1961، إخراج حسن الأمام، وأيضا فيلم (الصرخة) لنور الشريف إنتاج 1991، إخراج محمد النجار، ويعتبر من أهم أفلام نور الشريف، والذي مثل فيه دور أبكم أيضا.

أما صمت الحوار والبطلة في فيلم ريش فهو صمت مع وجود آلة النطق عند الإنسان وهي اللسان!!

صمت البطلة وقلة الحوار، أحد أبرز سمات الفيلم الحائز على جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان الجونة، وأفضل فيلم للنقاد في مهرجان كان.

الصورة في ريش

الجو العام لفيلم ريش هو جو خانق حتى الابتسامة الوحيدة للبطلة كانت في لحظة سخرية، ولم تبتسم حتى في مشهد عيد ميلاد ابنها وأثناء أغنية عيد الميلاد، وكأنها تتنظر مجهولا سيأتي.

أحجام لقطات الفيلم غالبا ضيقة، وفي المساحة الضيقة هناك زحام شديد، في عيد الميلاد زحمة بشر متنوعة، يرتدون ملابس بسيطة وصلت إلى أن هناك رجلا لا يرتدي ملابس خارجية في عيد الميلاد!!

البطلة دائما في منتصف اللقطة منكمشة، وحولها فراغ يوحي بالتيه فيها، ولقطاتها القريبة مكلومة حزينة، وعيونها يكسوها الحزن.

الأوراق والأدوات تتحدث في الفيلم، وحوار من خلفها، وتلك ميزة أخرى في لغة المخرج عمر الزهيري مخرج الفيلم، والحاصل على جائزة أفضل موهبة عربية في مهرجان الجونة، وهو المهرجان الذي صنع ضجة الفيلم وهاشتاجه، بانسحاب فنانين من عرض الفيلم مدعين إساءته إلى سمعة مصر.

الدجاجة الصامتة

لحظة الدراما الكبرى في الفيلم هي لحظة تحول البطل (الزوج)، إلى دجاجة، ففي لعبة الساحر المحتال، يتحول الرجل إلى دجاجة صامتة، وتبدأ معاناة البطلة ويصنف أهل السينما تلك الحالات بأنها سينما الفانتازيا.

الدجاجة الصامتة ذكرتني بفيلم (الأصليين)، عن قصة للكاتب احمد مراد، وإخراج مروان حامد إنتاج 2017.. الفيلم يحكي عن السيطرة على الناس عن طريق مراقبتهم، والحصول على ما يساعد تلك السيطرة، وتحويلهم إلى دواجن داخل حظيرة السلطة، كما يتردد على لسان ممثل النظام، (أو الجهاز الخفي المسيطر)، والذي يؤديه في الفيلم الممثل المصري خالد الصاوي.

هناك فكرة سائدة لدى نظام حاكم بتحويل الشعب إلى دجاج.. نظرية التدجين للشعب، وها قد حوله الساحر في ريش إلى دجاجة صامتة، وعندما طلبوا منه إعادته مره أخرى طلب دقيقة ثم نصف ساعة ثم اختفى (أصبح لا يتحدث مع الناس ولا يطلب منهم صبرا).

أما الفيلم الثاني الذي استخدم لغة الدجاج والديك، فهو فيلم المخرج سعيد حامد، السوداني الأصل مصري الجنسية، فيلم (حب في الثلاجة) إنتاج 1992، يحكي قصة مواطن، يعاني من أزمات المجتمع، عاجزا عن العيش والحب والزواج ويسعى إلى الذهاب للمستقبل فيقرر تجميد نفسه داخل الثلاجة، حتى يأتي المستقبل.. وفي الثلاجة يجد ديكًا مذبوحا، وتنشأ بينهم صداقة، ويحكي الديك أسرار معارفه ومعارف البطل من الجيران، لكن سعيد حامد في هذا الفيلم جعل الديك ناطقا، وناقدا ومرشدا لصديقه في الثلاجة..

أما عمر الزهيري فقد جعل الدجاجة (الرجل) صامتة لا تتكلم، وقد كنت أتخيل حتى نهاية الفيلم أنه سيتكلم، ولكن نجح المخرج فيما فشلت فيه أنا، لأن صمت الدجاج أبلغ تعبير عن واقع.

التعامل مع لا ممثلين!

أبرز ما في هذا الفيلم أن معظم من شاركوا فيه كانوا ممثلين يقفون أمام الكاميرا لأول مرة، وأصعب ما في هذا قلة الحوار، فالحوار يساعد خاصة في التجربة الأولى للتمثيل، لكن اعتمد المخرج أن يصل بإحساسه إلى الممثل، (إلا ممثلا) ليحول تعبيره إلى العين والحركة، وهو ما اعتبره أهم إنجاز لعمر الزهيري في الفيلم، كيف جعل هؤلاء الذين يمثلون لأول مرة يعبرون بعيونهم وكلماتهم القليلة؟

دميانة نصار بطلة الصمت والفراغ

عيون البطلة في فيلم ريش هي كل الحكاية، حزن دفين عاجز مكسور، لا يستطيع الكلام تسير تحت تأثير ما، تتحرك وفق آخرين، لا وفق ذاتها الغائبة تحت تأثير الواقع، المرفوض داخلها تجر أقدامها وكأنها نائمة.

وجه مصري أصيل، متعمق في بيئة مليئة بالعجز، نحت في العيون أنف حادة بلا ألوان صاخبة، مثلها مثل حوائط كل مباني الفيلم الباهتة لا زينة ولا ألوان مبهجة.

استخدم المخرج في الفيلم لقطات داخلية ضيقة، مليئة بالممثلين مقطوعي الجزء الأعلى من الرأس، وكأنهم بدون عقول مسحولي الفكر، حتى لقطة الأتوبيس جاءت بنفس الطريق.

مجاميع محبوسة في غرفة، أو في حمام، وحولهم حوائط بالية، وأجهزة عتيقة تلائم حالة الفقر العامة التي تفوح في كل لقطات الفيلم.

اما لقطات العامة فهي في منطقة غير معلومة الملامح باهتة، عمالها كعمال المناجم، والفراغ كامل في كل اللقطات كبيرة الحجم، تناقض بين اللقطات الداخلية واللقطات العامة، توحي بعدم الفعل العام لدى الجميع..

أما المشهد الذي أتصوره مهما أيضا فهو مشهد توظيف البطلة في مذبح، ومشهد الدم الذي أغرق الأرض، وأثناء تقطيعها لرأس حيوان وتمزيقها تبدأ بقطع اللسان أولا ثم الحلق (الحنجرة).

فيلم ريش: فيلم اللغة السينمائية العالية، مخرج يعي أدوات السينما، والصمت العام وصمت البطلة وحزنها هو الغالب في الواقع.

أخيراً

أتصور أن الذين انسحبوا من عرض الفيلم، قدموا خدمة جليلة له ولأبطاله ومنتجه، فقد نجى الفيلم من مصير (حب في الثلاجة)، الذي حاز أكثر من عشر جوائز في مهرجانات سينمائية، وقوبل بإشادة كبيرة من النقاد، لكنه لم يحقق نجاحا جماهيريا، ولم يحقق إيرادات سوى ستة آلاف جنيه.

اما دميانة نصار فلها كل التقدير فقد كانت معبرة عنا جميعا في صمتها وحزنها وكسرتها.. كانت مصرية خالصة فصارت تعبيرا عنها والأكثر روعة وتأثيرا أنها واحدة من الناس.

المصدر : الجزيرة مباشر