مصـر في فـخ الديون الصينية!

رئيس زامبيا يصافح الرئيس الصيني في بيجين

عادة ما يخشى الناس من الدَين كخشيتهم من الفقر أو أشد خشية.

فالفقر لا يعيب صاحبه أما الدَين فهو همٌ بالليل ومذلةَ بالنهار. لا تختلف الشعوب عن الأفراد في أمر الدَين، فما الدول إلا مجموعة أفراد، يتحملون في مجموعهم عبء الدَين، وإن لم ينلهم منه منفعة أو حظا بينما يفوز بخيراته من أوقعهم في فخ هذه الديون.
لذلك من عادتي تتبع الإحصاءات التي تصدر من هنا وهناك حول الديون، باعتباري مواطنا ملتزما بسداد كل ما تريده الدولة من ضرائب وغيره، وأخشى أن أُطالب يوما بتسديد حصتي من الدين العام، كما دعا بذلك أحد رؤساء تحرير الصحف.
كما أخشى على أولادي وأحفادي من تحمل تبعات هذه الديون. فقد أعلن البنك الدولي الأسبوع الماضي أن ديون مصر قفزت من 36.7 مليار دولار من نهاية عام 2010 إلى 131.5مليار دولار إلى نهاية عام 2020، وجاءت هذه القفزة الهائلة بداية من عام 2014، بنسبة تناهز 200٪. وأعلن البنك المركزي المصري منتصف أكتوبر الجاري، ارتفاع الدين الخارجي للبلاد خلال العام المالي 20/21، بقيمة 14.4مليار دولار، ليصبح عند يوليو الماضي 137.8 مليار دولار.

اختفاء

عند مراجعة تقرير البنك المركزي والموازنة العامة للدولة، لاحظنا اختفاء أرقام الدين الخاصة بالشركات والجهات المحلية التي اقترضت أموالا من دول ومؤسسات أجنبية بالعملة الصعبة، والتي تحصل عادة على ضمان من وزارة المالية.
بحكم التخصص، لم نجد المبالغ التي اقترضتها شركة العاصمة الإدارية من الصين لإنشاء البرج الأيقوني أو مجمع الوزارات التي تنفذه شركات صينية أو قيمة القروض المخصصة لشراء قطار العاصمة والقطار السريع، وكذلك قيمة القروض التي حصل عليها البنك الأهلي أو بنك مصر، وشركات قطاع الأعمال التي حصلت بمفردها على ما يزيد عن نصف مليار دولار من الصين لتطوير قطاع الغزل والنسيج، وهي ديون أصبحت لها حجة الديون الحكومية.
وتسمى هذه الديون في عرف خبراء الاقتصاد (الديون المخفية)، وهي نوعية من الديون المستترة التي تدفعها الصين للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط بفوائد أعلى من المعدلات الدولية، وفترة سنوات أقل، وتوجه للشركات والبنوك العامة، بحيث لا تظهر في الميزانيات العمومية للحكومة، ولا يتم الإبلاغ عنها بشكل منهجي لنظام الإبلاغ عن الديون التابعة للبنك الدولي المعروف بـ”DRS”.

وتكشف دراسة لمؤسسة Aid DATA البريطانية المتخصصة في بحوث الرقابة المالية في دراسة حول الأعمال المصرفية على (مشروع الحزام والطريق) التي تعتبر مصر إحدى الدول الواقعة على مساره، أن قيمة الديون غير المبلغ عنها للبنك الدولي، تبلغ نحو 385 مليار دولار، تستفيد منها نحو 42 دولة، بما يتجاوز 10٪ من الناتج المحلي لهذه الدول. وتشكك الدراسة في الجهات المستفيدة من هذه القروض ومآلات القروض، بما يحول دون رقابة المجتمع والأجهزة المعنية على إنفاق هذه الأموال.

القروض الصينية لا تأتي جزافاً

عادة ما تتخذ الصين هذه الوسائل لإغراء الدول الفقيرة والأنظمة غير الديمقراطية بالقروض، بما يوقع الدول في شبكاها فلا تعرف الفكاك من (فخ الديون) الذي نصبته لها إلا بالتنازل عن بعض مرافقها الحيوية كالموانئ والمطارات وغيرها، أو الحصول على امتيازات استراتيجية وتقديم تسهيلات عسكرية في نطاق أراضيها للقوة الصينية الصاعدة. فالقروض الصينية لا تأتي جزافا، فهناك 300 جهة صينية تتسابق على منح القروض للحكومات الأجنبية والشركات العامة التابعة لها.

زادت أنشطة الإقراض الخارجي للصين خلال الفترة من 2013 إلى 2018 بنحو 5 أضعاف، لتنفيذ مبادرة الحزام والطريق، في 165 دولة أقرضتها بنحو 843 مليار دولار، لتهيمن على سوق تمويل التنمية في العالم، بما يفوق الولايات المتحدة، حيث حافظت على نسبة 31 إلى 1 من القروض إلى المنح. في الوقت نفسه تعتبر الصين نفسها دولة نامية تساعد الآخرين عبر القروض وليس عن طريق المنح والمساعدات أسوة بالدول الصناعية الكبرى.

أصبحت الصين دائنة ل نحو42   دولة أفريقية، بما يوازي نحو 10% من الناتج المحلي لهذه الدول، ورغم ارتفاع الفوائد، وقسوة شروط السداد، فإنها تضع نصوصا تجعل الدول لقمة سائغة في يديها إذا تخلفت عن الدفع، لذلك عندما فشلت دولة زامبيا في دفع قيمة محطة التوليد المائية التي أنشأتها الصين، تحولت ملكيتها إلى الشركة الصينية الحكومية ” Sino Hydro” ومع زيادة القروض، امتلكت ٦٠٪ من إذاعة زامبيا الحكومية.
وتسعى الصين إلى الحصول على حق إدارة ميناء “مومباسا” الكيني بعد فشل الحكومة في سداد قرض قيمته 3.8 مليار دولار، أنفقته على بناء خط سكك حديدية بين العاصمة نيروبي والميناء، ولم تستطع تعويض تكاليف التشغيل.
وفي خارج القارة، تبين لكثير من الدول خطورة الديون الصينية بما دفع مهاتير محمد (رئيس وزراء ماليزيا السابق) عقب عودته للحكم منذ 3أعوام إلى إلغاء قرض قيمته 22 مليار لخوفه من وقوع اقتصاد بلاده تحت رحمة الصين. فكان مهاتير محمد يقظا لما فعلته الصين بدولة سيريلانكا، التي فاوضتها الصين للحصول على حق إدارة مينائها الرئيسي على المحيط الهندي “هامبانتوتا” لمدة 99 عاما، بعد أن فشلت في سداد قيمة قرض الانشاء بلغ 307 ملايين دولار.

شروط مجحفة

تقول السلطات الصينية إنه لا يوجد دليل على أنها تدفع الدول وخاصة الفقيرة عن عمد إلى الديون كوسيلة للاستيلاء على أصولها أو الحصول على نفوذ أكبر في شئونها الداخلية. ويعزز هذا الرأي ما تذكره ديبورا بروتيجام أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة ” جونز هوبكنز ” الأمريكي والمؤسسة لمبادرة أبحاث الصين وأفريقيا أن قصة (فخ الديون) أسطورة، لم تعثر لها على دليل” وهو أمر تخالفه تجاربي الشخصية التي عايشتها في أثناء تفاوض الصينيين على بناء أبراج العاصمة ومشروعات أخرى كنت شاهدا عليها، لأسباب سيأتي ذكرها في مراحل تالية.
وحسب ما شهدنا فإن التفاوض على بناء البرج الأيقوني كان معتمدا على تمويل شركات إماراتية للمشروع، فلما انسحب الإماراتيون، طلبت مصر قرضا قيمته 1.2 مليار دولار للتنفيذ، ففوجئت الحكومة بشروط مجحفة، أدت إلى رفضها أولا، وبعد أن أصبحت العاصمة الإدارية هي المشروع القومي للنظام، تشددت الصين في مطالبها، بعد أن تحولت بيجين أكبر داعم للنظام المصري في هذه الفترة ماليا وسياسيا، وفجأة أصبحت تكلفة المشروع 3.2 مليار دولار. تحول القرض إلى شركة العاصمة الإدارية الجديدة، لذلك لم يظهر في الميزانية العامة ولا التقارير الدولية، ولم يعرض على البرلمان، ولم تظهر تفاصيل عقوده في الصحف أو أية جهة رسمية، أسوة بغيره من القروض الصينية المماثلة، ولا تظهر أرقام هذه القروض إلا فيما تذكره بيانات السفارة الصينية بالقاهرة أو حكومة بيجين.

من هنا تحذر مؤسسة  “Aid DATA” من حدوث نتائج كارثية، من الديون الصينية التي تتم بعيدا عن المؤسسات الرقابية في الدول مؤكدة ” أن الشعب الأفريقي يتم تهميشه على الدوام، بالرغم من أنه هو الذي سيتحمل عواقب الصفقات السيئة على الدوام” بما يعني ضرورة إزالة الغموض الذي تفرضه الأنظمة على القروض وتجاهل المخاوف المرتبطة بالفساد والمبالغة في الأسعار وانتهاك حقوق العمال،  ويخلق تصورا بأن الصين تحرص على ارتكاب مخالفات من شأنها أن تثقل على كاهل بعض البلدان الأفريقية بديون يصعب سدادها بما يبلي شعوبها لعقود قادمة.
ويؤكد الباحث العربي عمار مالك كبير الباحثين في التقرير الذي يغطي القروض الصينية لأفريقيا والعالم خلال الفترة من 2010 إلى 2021 أن “الصين ترفض الإفصاح عن المعلومات التي تخص مشروعات التنمية الخارجية الخاصة بها”، وفات الباحث العربي أن سرية المعلومات في الصين تتخذ عادة واجهة للتستر على الفساد في نصوص العقود والأسعار لتسهيل الفساد المالي لكبار المسئولين الصينين والمسؤولين عن تلك المشروعات في دولهم. فإذا كانت الصين تريد أن توقعنا في الفساد فلماذا نتستر نحن عمن يوقعنا في هذا الفخ؟!

المصدر : الجزيرة مباشر