محنة التعليم المصري

كثافة الفصول

صادمة ومؤلمة هي الصور المتداولة مؤخرا في الفضاء الإليكتروني لتلاميذ مصريين يفترشون الأرض داخل فصل دراسي بمحافظة القليوبية الملاصقة للعاصمة (القاهرة)، وغيرها راصدة لازدحام غير مسبوق بالفصول الدراسية ولجوء مُعلم للتنقل داخل أحد الفصول قفزا فوق الديسكات (المناضد) وظهور علم فرنسا بإحدى المدارس بديلا للعلم المصري.

هذا مع أحاديث عن التوسع في تقسيم الدراسة إلى فترتين تخفيفا لازدحام الفصول وفترة ثالثة إن لزم الأمر، وتواتر معلومات عن وصول كثافة الفصل الدراسي في “بعض” الحالات إلى نحو 100 تلميذ بما ينسف العملية التعليمية من أساسها، ويمنع استيعاب التلاميذ لأي دروس في هذا الزحام الخانق، دعك من كورونا والتحوط منها ناهيك بواقعتين منفصلتين لمقتل تلميذيْن في صراع عنيف على أحقية الفوز بالمقاعد الأمامية.

 الأب الشرعي لمشكلات التعليم بمصر المحروسة

على هذه الخلفية من الصور والوقائع المصحوبة بالسخرية لحال المدارس و”التعليم قبل الجامعي” الذي ينتظم فيه 24 مليون طالب، أصدر وزير التعليم المصري الدكتور طارق شوقي قرارا بمنع التصوير بالمدارس والمؤسسات التعليمية.

قرار الوزير جاء متعللا بحماية التلاميذ ومعلميهم وحفاظا على هيبة التعليم، كأن علاج هذه “المشكلات” المصورة يكمن في التعتيم عليها وإنكارها أو ربما أراد الوزير وقراره الإيحاء بأن التصوير هو الأب الشرعي لمشكلات التعليم في مصر المحروسة وهي كثيرة، مع أنه يتم تصوير “زيارات المسؤولين” والمتابعين للعمل بالمدارس بدون رغبة المعلمين والطلاب على السواء، بل وغالبا ما تكون هذه الزيارات صورية بهدف تجميل الواقع المؤلم للمدارس.

 مؤامرات كونية ولماذا نعلم أولادنا

الوزير شوقي استخفافا منه بالعقول وجريا على عادته بإلقاء اللائمة تصريحا أو تلميحا على المؤامرات الكونية التي لا تتوقف ضده ووزارته (باعتبارهما شيئا واحدا) أو هكذا يظن، لفت في تصريحات متلفزة إلى أن هناك مجهولين يدفعون أموالا لإظهار المدارس بشكل سلبي.

على أن هذه الصور والوقائع وغيرها -على شدة إيلامها- كاشفة عن محنة قاسية تتزايد حدتها منذ ثلاثة عقود أو يزيد، وتُمسك بخناق العملية التعليمية حتى باتت “المدرسة” فاقدة تماما للمقومات اللازمة لأداء دورها الموكول إليها باعتبارها المؤسسة التربوية الرسمية.

إن أي نقاش لقضية التعليم ينبغي أن يبدأ بسؤال جوهري هو: لماذا نعلم أولادنا؟ بعبارة أخرى: ما الهدف من تعليمهم؟ السؤال متعلق بـ”أهداف التربية” وفلسفتها أي نوعية القيم والاتجاهات والعادات والثقافة التي يريدها المجتمع للنشء (رجال المستقبل)، هل يريدهم متعاونين مثلا أم متنافسين؟ هل يكونوا متسامحين أم متعصبين لدينهم مثلا؟ يميلون إلى التعايش مع الآخر، أم النفور منه؟ يؤمنون بالعلم أم بالخرافات؟ وغيرها من الأسئلة الفلسفية.

هذا السؤال المُهم (لماذا نعلم أولادنا؟) تكفلت المادة 19 من دستور 2014 بالإجابة عنه، فاعتبرت “التعليم” حق لكل مواطن، وبينت الهدف منه بأنه بناء الشخصية المصرية وتأصيل المنهج العلمي في التفكير وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار وترسيخ القيم الحضارية والروحية وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز.

تحديد المقررات عشوائيا واجتهاديا من دون مرشد

هذا النص الدستوري المتقدم والمُساير للعصر والاتجاهات التربوية العالمية، يكاد يكون مُهملًا جملة وتفصيلا، إذ إن هذا النص الكاشف عن نوعية التربية والقيم التي يريدها المجتمع المصري للنشء من وراء تعليمهم هو نفسه الحاكم والمرجع للمحتوى أو المقررات الدراسية للمرحلة قبل الجامعية، لتكون برمتها ترجمة فعلية لهذه الأهداف التي قررها المشرع الدستوري بالمادة 19، فإذا ذهبنا للمقررات فلن تجد بينهما والمادة 19 رابطًا إذ يتم تحديد هذه المقررات عشوائيا واجتهاديا دونما دليل أو مرشد، شأنها في هذا شأن كل شؤون التعليم.

300 ألف فصل دراسي نقصا بتكلفة إجمالية 150 مليار جنيه

من خلال الصور والوقائع المشار إليها أعلاه أيضا وتصريحات وزير التعليم، فإن المدارس تعاني نقصا حادا في فصول الدراسة يبلغ 250 ألف فصل منذ عام 2017، تزداد بمعدل 28 ألف فصل لاستقبال 800 ألف تلميذ جُدد سنويا مقابل إنشاء 14 ألف فصل فقط كل عام، أي أن العجز يبلغ 300 ألف فصل بـ”تكلفة” إجمالية 150 مليار جنيه، يصعب تحميلها لموازنة الدولة على حد قول الوزير شوقي، مؤكدا أن الحكومة هي التي تحدد “الأولويات”.

العجز 260 ألف معلم ومئات الآلاف من التربويين بلا تعيين

نقص الفصول ليس هو كل المشكلة، فهناك عجز في المعلمين يبلغ 260 ألف مُعلم حتى نهاية 2020 باعتراف وزير التعليم الذي أشار إلى أن تعيين 30 الف معلم فقط يتكلف مليار جنيه، وأنه لا توجد اعتمادات مالية لهذا الغرض، وأعلن عن فتح باب التطوع للتدريس وفق شروط محددة، وغني عن البيان أن مثل هذا الحل نوع من المسكنات التي تضر بأكثر مما تنفع، وهو حل غير تربوي على كل حال، في الوقت الذي يتوفر فيه مئات الآلاف من الربويين خريجي كليات التربية لم يتم تكليفهم أو تعيينهم باعتبار هذا الأمر هو الآخر لا يمثل أولوية.

التعليم الموازي والإلكتروني عن بعد

نقابة المعلمين المصريين بدورها لفتت إلى ارتفاع العجز في المعلمين والممتد إلى كل التخصصات بواقع 50 ألف معلم، خلال عام 2021، ومثلها في العام 2022، ونبهت إلى التعليم عن بعد (إلكترونيا) ليس بديلا عن المعلم، نتيجة عدم توفر الإنترنت بمناطق ريفية أو بعيدة عن العمران وحاجة المعلمين إلى التدريب وغيرها.

هذه العوامل من نقص المعلمين والكثافة المرتفعة جعلت “المدارس” بيئة طاردة لطلاب الشهادات العامة كون الانتظام بها بلا جدوى تعليمية، كما تؤدي إلى سريان نوع من الفوضى لعدم القدرة على استيعاب الطلاب مكانيا وغياب الكوابح نتيجة نقص المعلمين.

ليس غريبا والحال هكذا، اعتماد ملايين الطلاب على تلقي دروسهم خارج المدرسة، فيما يمكن أن نسميه تعليما موازيا من خلال الدروس الخصوصية، وما يُسمى (السناتر)، وهي مراكز لإعطاء دروس تقوية لأعداد كبيرة من الطلاب بمقابل مادي أقل من الدرس الخصوصي.

“السناتر” والجودة والمعايير الدولية وتكاليف المعيشة

في كل الأحوال، فإن تكلفة هذا التعليم الموازي سواء من خلال (السناتر) أو الدروس الخصوصية تُثقل كاهل أولياء الأمور، وتلتهم عشرات المليارات من مداخيلهم بينما كثيرون منهم يعانون أصلا من ارتفاع التكاليف المعيشية.

يضاف إلى ما سبق، منع تسليم الكتب الدراسية للتلاميذ دون سداد الرسوم المقررة بما يُزيد الأعباء على نسبة كبيرة من أولياء الأمور بما يتناقض مع المادة 19 بالدستور، التي ألزمت الدولة بكفالة الحق في التعليم وتيسيره في مرحلة ما قبل الجامعة.

لا يمكن الحديث بعد هذا الذي سردناه عن “ناتج جيد” لهذا التعليم، ويكون طبيعيا أن يحتل مرتبة متأخرة جدا في جودة التعليم وفقا للمقاييس والمعايير الدولية.

مسلسل التدهور وعواقب التخبط وسياسة الوزير

هنا، يكون السؤال: لماذا وصل حال للتعليم المصري إلى هذا الحد من التدهور؟ الواقع أن هذه الحالة ليست وليدة هذه الأيام، بل إن مسلسل التدهور في التعليم المصري سارٍ منذ ثمانينيات القرن الماضي، نتيجة تخبط وعشوائية السياسات والقرارات التعليمية وتراجع المؤسسات المعنية بالتخطيط التربوي والتعليمي وتهميشها لتتحول السياسات التعليمية إلى “سياسات وزير”.

بعبارة أخرى، فمنذ ثلاثة عقود تقريبا أو يزيد صار “وزير التعليم” -أي وزير- هو المتحكم في السياسات التعليمية، وصاحب الرأي الأوحد فيها ونادرا ما يكون متخصصا أو مدركًا أصلا للعواقب الوخيمة لهذا التخبط على العملية التعليمية ومخرجاتها، سواء تضاربت قراراته هو نفسه مع بعضها أو تناقضت مع قرارات سابقيه.

الوزير وعقدة الثانوية العامة وسلم الأولويات الحكومية

على سبيل المثال، فالوزير الحالي للتعليم الدكتور طارق شوقي دكتور مهندس في الميكانيكا، والدكتور فتحي سرور وزير التعليم في الثمانينيات أستاذ للقانون، وألغى الصف السادس الابتدائي ليأتي بعده الدكتور حسين كامل بهاء الدين أستاذ طب الأطفال، كلاهما -وكل وزير بعدهما- يبدأ مسيرته بتغيير نظام امتحانات الثانوية العامة، وكأنها عقدته ليأتي الوزير التالي ليلغي ما قرره سابقه بنظام جديد أو إعادة القديم مثلما عاد الصف السادس الابتدائي.

إن هذا كله، أنتج هذا الواقع المؤلم للتعليم الذي جسدته الصور التي صار تصويرها ممنوعا، وأسهم في تفاقم المشكلة التعليمية، ما تشهده المرحلة الحالية من تراجع للتعليم -كما الصحة- إلى مرتبة متأخرة في سلم الأولويات الحكومية تقديما لبناء الحجر بينما بناء الإنسان هو الأهم والأجدر بكل تأكيد، إذ الاستثمار في البشر هو الأمثل والأعلى عائدا، لكنها حكومة لا تفقه ووزير لا يسمع إلا نفسه.

المصدر : الجزيرة مباشر