تدمير الآثار المصرية!

مدافن السيدة نفيسة

في عام 1977 رفعت الكاتبة الراحلة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد قضية ضد الرئيس الراحل، محمد أنور السادات، عندما أعلن عن مشروع بناء منطقة سياحية على هضبة الأهرام تضم حمامات سباحة، وملاعب للجولف، وأوضحت في القضية أن هذا المشروع يضرّ بالمنطقة الأثرية؛ بسبب الرطوبة والتلوث، وتغيير معالم المنطقة، وقامت بتأليف كتاب “مشروع هضبة الأهرام”، والذي تمت مصادرته حينها. ولكن خلال 11 شهرا من رفع الدعوى تراجع السادات عن مشروعه السياحي.

بيد أن ما يحدث حاليا هو حُمّى لهدم وتجريف الآثار، والأماكن التراثية والثقافية والعمرانية، وخاصة في القاهرة التاريخية؛ من أجل إنشاء مزيد من الطرق والكباري في مدينة أصبحت مشوهة من كثرة هذه الكباري والمحاور، وعوامل التصحّر، ومن خلال قطع الأشجار المعمرة المزروعة منذ عشرات السنين، ولم يفكر مَن يهدمون مدافن عمرها مئات السنوات أو يزيد، ويشتتون رفات الموتى؛ أنه بعد مائة عام أخرى قد يأتي من يساوي مقابرهم أيضا بالأرض، ويقيم عليها ما يشاء من مبانٍ مثلما فعلوا مع مقابر أحمد شوقي أمير الشعراء، أو محمود سامي البارودي، ربّ السيف والقلم، ربما أعادوا التفكير فيما يرتكبونه في حق الأحياء والأموات.

تدمير القاهرة التاريخية

فها هو الدور جاء على جبانة السيدة نفيسة المزمع إزالتها جزئيا، وهي تقع داخل نطاق القاهرة التاريخية بالكامل، ومسجلة ضمن وثيقة اليونسكو للحفاظ على التراث الإنساني التي صدرت عام 1972، ليتم تسجيلها عام 1979 كجزء من ممتلكات التراث العالمي، وهي جزء من القرافة الكبرى، المعروفة حاليا بالإمام الشافعي، المنشأة من ألف وأربعمائة وخمسين عاماً، وتضم مدافن آل البيت، والسيدات: نفيسة، ورقية، وسكينة، وعاتكة، والإمام الجعفري، بالإضافة لقبة أم الصالح، وقبة الأشرف خليل، وضريح شجرة الدر، وقبة موفي الدين، وضريح الخلفاء العباسيين، بالإضافة لأحواش الأعيان التي تم رصدها إلى الآن، كأمير الشعراء أحمد شوقي، والمؤرخ الجبرتي.

كذلك إزالة مشيخة الأزهر في شارع الأزهر، التي تطلّ على ميدان الحسين، وهي حديثة نسبيا؛ لكن ذات طراز متسق مع محيطه، وعلامة مميزة، وحالتها ممتازة، ومسجّلة أثراً، كذلك تم استقطاع جزء من حديقة الميريلاند في مصر الجديدة لتحويلها لبوتيكات، حتى وصل الأمر إلى حديقة الأسماك التي تواجه نفس المصير، والتي أنشأها الخديوي إسماعيل منذ أكثر من 150 عاماً، وقام ببنائها مدير الحدائق العامة بفرنسا (مسيو ألفوندو)، ليصمم حديقة لم يسبق لها مثيل في العالم في ذاك الوقت، فكانت حديقة الأسماك، وبنى قصرا مشيداً (فندق الماريوت حاليا) يقال إنه بنى كل ذلك من أجل الملكة أوجيني، ملكة فرنسا في ذلك الوقت، وقام بافتتاح الحديقة والقصر في نفس احتفالات افتتاح قناة السويس.

إزالة المدافن التراثية

وكما صرخت من قبل الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في عهد الرئيس السادات، تصرخ الآن الدكتورة جليلة القاضي، أستاذ التخطيط العمراني، ومدير الأبحاث بالمعهد الفرنسي للبحوث من أجل التنمية، والتي كان لها دور كبير في وضع منطقة وسط البلد على خريطة المناطق التراثية في مصر، وتناشد بمنع هدم التراث المعماري والحضاري للقاهرة التاريخية، مؤكدة أن “قرافات” القاهرة ليست مجرد تراب، ولكنها صفحات علي الأرض تحكي تاريخها القديم والحديث، وسِير أعلامها، وتظهر عمارتها، ودشنت منذ العام الماضي حملة وقّع عليها أكثر من ألف مصري من المتخصصين والمثقفين لمنع ما يحدث من تدمير.

وطالبت الدكتورة جليلة بتوثيق الجبانات في مدافن مناطق السيدة عائشة والسيدة ونفيسة، مؤكدة أن هناك مقابر أثرية مسجلة ومرقمة حاليا باللون الأحمر من أجل الإزالة، وأن الحديث عن أن هذه المقابر مسجلة وتلك غير مسجلة كلام مرسل لتضييع الوقت، وليس هناك فرق بين ما هو مسجل وغير مسجل.

تصرخ الدكتورة جليلة وهي تقول: كان هناك من يفهمون، فوضعوا التشريعات لحماية تلك الآثار، لكن التتار والغزاة من طبعهم الإغارة، وتدمير كل ما يعترض طريقهم بدون تمييز، فلمصلحة مَن يتم كل هذا؟ أليس هناك رجل رشيد في الحكومة؟ ألا يوجد نائب في البرلمان يقدم استجوابا؟ ولماذا يهون تراثنا على الجميع؟!

التسجيل لا يحمي الآثار

إذن، التسجيل كأثر لا يحمي أي مكان أو منشأة من الإزالة والتخريب المتعمد، أو التخريب بجهل، طالما تم استبعاد المتخصصين الوطنيين، ، وما يحدث جريمة كبرى سوف تحاسبنا عليها الأجيال القادمة؛ بسبب سكوتنا وتخاذلنا، وما سيتم هدمه لن يعود كما كان بعد ضياع كنوز تحسدنا عليها الدول.

بعيدا عن القاهرة، وفي الإسكندرية يتم إزالة منطقة “المكس”، وقرية الصيادين ومساكن أخرى، وهذه المنطقة مليئة بالآثار التي تعود إلى عصر محمد علي؛ الفنار والطابية ومنشآت أخرى، بالإضافة إلى أن قرية الصيادين في حد ذاتها، تراث شعبي، وفي الفيوم تمت إزالة سواقي الفيوم الأثرية التاريخية، التي تم بناؤها في عصر البطالمة منذ 2300 سنة، أي: قبل الميلاد، وهي من أشهر المعالم التاريخية والمزارات السياحية في المحافظة، والحجة الجاهزة هي تطوير الميدان، وأنها سوف تعود لمكانها بعد ذلك.

وكأنه “هولوكوست التراث” يمشي بوتيرة متسارعة للقضاء على كل شيء دون شفقة، أو رحمة بتاريخ، أو حضارة أو تراث، رغم أن هناك نداء ومذكرة وقّع عليها 50 متخصصاً أَرفقوا بها تقرير منظمة اليونسكو تم توجيهها للرئيس المصري، أكد بعدها رئيس الوزراء أنه لن يتم هدم أي أثر، ولكن جاء الرد سريعا في تنفيذ توسعة طريق صلاح سالم.

ليس أمامنا سوى التوعية، والتحذير، والتوثيق؛ لأن كل ذلك يجري يتم بدون أي حوار مجتمعي، أو مناقشات في ندوة بنقابة أو جمعية أهلية، فلا توجد أي جهة من حقها أن تدلي بدلوها في الموضوع!

المصدر : الجزيرة مباشر