ميركل ليست قديسة!

لا أحد هنا يتغنى بها على غرار الصحافة العربية

ميركل

انتهت الانتخابات الألمانية ولم يفز بها حزب ميركل المسيحي الديمقراطي، بل فاز منافسه الحزب الاشتراكي الديمقراطي بنسبة ضئيلة تسمح له بالحكم بعد تشكيل ائتلاف حاكم من أحزاب الخضر والليبراليين الديمقراطيين. ليس هذا هو ما يهمنا هنا، فنتائج الانتخابات معروفة ، لكن المهم هو العبر والدروس المستفادة منها.

في وقع الأمر أن حزب المستشارة ميركل لم ينجح، ولم يشفع له أمام الناس شخصية ميركل ذات الكاريزما ونظافة اليد، والتي حافظت على استقرار ألمانيا سياسياً طيلة 16 سنة، فهي حقبة وانتهت والناس هنا تفحص وتتبين المرشحين بكل دقة قبل الإدلاء بأصواتها، مما يعكس المناخ الديمقراطي القادر على انتقاء سياسيين يخدمون بلادهم من دون أن يكونوا امتداداً لهذا أو ذاك، من ناحية أخرى لم تتدخل ميركل في الانتخابات بأي شكل وتركت الحرية لشعبها في اختيار من يريد!

بالتأكيد فإن أهم الدروس المستفادة ما أكدته هذه الانتخابات أن سريان الحياة الديمقراطية يشبه سريان المياه المتجددة المتدفقة، لا يمكن أن تكون راكدة وإلا ستتحول إلى مستنقعات ومياه آسنة يعلوها العفن، لهذا بات واضحا أن نجاح المستشارة الألمانية طيلة فترة حكمها لم يكن بسبب الملفات السياسية والاقتصادية فحسب، بل لأنها حافظت على المسار الديمقراطي واحترام الأحزاب المنافسة وعمل مؤسسات الدولة وتدعيمها، وهو الشيء الذي ألقى بظلاله على الانتخابات فظهرت نتيجتها ترجمة حقيقية لاختيار الشعب، وثقافته ووعيه، من دون أدني تدخل من الإدارة الحالية.

مديح الصحافة العربية

ما يسترعي الانتباه اهتمام الصحافة العربية بميركل وكيل المديح لها، وهو يعكس قدراً كبيراً من التعطش للديمقراطية بغض النظر عن اهتمامهم بالحالة السياسية في داخل ألمانيا، فميركل ليست قديسة في بلادها، ولا أحد هنا يتغنى بها على غرار الصحافة العربية، فالتقشف ونظافة اليد واحترام الديمقراطية ليس تفضلا منها على الشعب، بل هي أسس لا يمكن الحياد عنها في ظل دستور قوي يحاسب بقوة وشدة ولا أحد يستطيع الخروج عليه، ولم يكن عمل المستشارة في مفهوم العقلية الألمانية أكثر من موظفة تؤدي عملها تجاه الشعب، فليس غريبا هنا أن تقرأ في الصحافة الاهتمام بالسياسة الداخلية، ورفاهية الشعب، وهم ينتقدون فترة حكمها من دون مواربة، مع أنها استطاعت تقليص أعداد العاطلين عن العمل في فترة ولايتها، لكنها لم تفلح في رفع الأجور المتدنية مقارنة بدول الجوار مثل النمسا وسويسرا، ولم تفلح كذلك في سد الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء، فألمانيا يوجد بها 13 مليون فقير منهم 3 ملايين طفل هذا طبعا مع الأخذ في الاعتبار إختلاف مقومات الفقر بين ألمانيا ودول العالم الثالث.

ميركل أيضا لم تأت بالمعجزات لكن ما يجعل الإعجاب بها متزايداً على هذا النحو هو أنها شديدة التواضع في بلد هو ثالث اقتصاد في العالم، فهي لا تملك قصوراً ولا شققاً في الأحياء الراقية هنا أو هناك، ولا تمتلك أسطول سيارات على غرار حكام الدول الديكتاتورية،  مع أنها مستشارة البلد الذي ينتج أفخم ماركات السيارات، وهذا بالتأكيد هو أحد أسرار قوتها وتحولها إلى إسطورة في عيون الشعب، لأن الناس بطبيعة الحال سئمت الحكام اللصوص، والمتاجرين في أقوات الشعوب، الذين لا يكفون عن النهب ..ويبحثون عن حكام قدوة يسمون على المناصب والأهواء الشخصية في سبيل تحقيق مصلحة شعوبهم.

ليس غريبا أن تتفجر فضيحة أوراق باندورا ونحن بصدد الحديث عن تواضع ميركل ونظافة يدها، فقد كشفت كمية هائلة من الوثائق المسربة قبل أسبوع عن شكوك حول ذمم مالية لشخصيات تشمل ملوك ورؤساء ورؤساء وزارات في عدة بلدان حول العالم، وكشفت عن الأصول السرية لأكثر من 130 ملياردير من 45 دولة، بالإضافة لعملاء آخرين في عالم “الأوف شور” تلك الشركات التي يتسترون وراءها لتغطية أملاكهم وثرواتهم التي هي بالتأكيد ليست في بلادهم.

هذه الفضائح بالتأكيد لم تطل من شخصية ميركل، فلم يسجل طيلة فترة حكمها أنها وقعت فريسة لإغراءات السلطة التي تفسد اليد والعقل في حالة طبعا الاستسلام لها.

ليست عارضة أزياء

سألت صحفية ذات مرة ميركل ـ لماذا ترتدين نفس الملابس؟ ويتكرر ظهورك بها؟ .. فردت عليها أنها تعمل موظفة عند الشعب، وليست عارضة أزياء تقوم باستعراض الملابس، وسألتها تلميذة في إحدى المدارس: هل لديك خادمة تساعدك في أعمال المنزل؟.. فردت عليها أنها هي من تقوم بأعمال المنزل بمساعدة زوجها، وفي أحيان كثيرة تضبطها الكاميرا وهي تقوم بالشراء بنفسها من الأسواق، وعندما تعطلت طائرتها المخصصة لها من وزارة الدفاع مرتين تم استبدالها بطائرة أخرى بعد أن ظلت الطائرة عشرين عاما في الخدمة، وفي المرتين استخدمت طائرات تجارية عادية لإكمال رحلتها كانت آخرها في أمستردام عندما تعطلت الطائرة وهي في طريقها إلى اجتماع الدول الصناعية في الأرجنتين، وأكملت الرحلة في طائرة ركاب عادية، وجلست بجوار شاب لا تعرفه، وعندما سألت الصحافة الشاب عن شعوره عندما تفاجئ بركوب المستشارة بجواره قال: إنها سيدة هادئة،  كانت تقرأ طول الوقت ولم تتناول طعام غير الزبادي!

والسؤال الذي يطرح نفسه ـماهي الأسباب التي تجعل حاكما عادلا متواضعا مهتما ًبشؤون شعبه، وآخر ظالماً متغطرساً مهتم بتضخيم ثرواته وذاته؟ بالتأكيد توجد عوامل عدة تفسر ذلك أهمها في الحالة الأولى هو إيمانه المطلق بالديمقراطية الحقيقية التي تختار الأصلح، إضافة إلى البيئة التي تكونت فيها ثقافته الأولى ومدي خبرته السياسية التي اكتسبها من تدرجه في العمل الحزبي، وقدرته على التنبؤ باحتياجات الشعب، ومن ثم قدرته العقلية وذكائه الاجتماعي اللذان يجعلان له كاريزما لا تخطئها العين فتنعم به الشعوب وينعم هو بحبها، أما غير ذلك فهو جحيم يصطلي بناره الجميع المؤيد والمعارض.

المصدر : الجزيرة مباشر