ماذا قدم العدالة والتنمية لإنهاء الصراع المسلح وحل المشكلة الكردية؟

انتهج أردوغان سياسة الاحتواء للأقليات، كالأكراد والأرمن والعلويين، لاسيما بعد تحالفه مع حزب الحركة القومية

أردوغان وحليفه دولت بهتشلي

أثارت التصريحات التي أدلى بها كل من الرئيس رجب طيب أردوغان وحليفه دولت بهتشلي زعيم حزب الحركة القومية ، والخاصة بنفيهما وجود ما يسمى بالمشكلة الكردية في تركيا، ردود فعل عنيفة من جانب رؤساء أحزاب المعارضة ووسائل إعلامها، واصفين تلك التصريحات بالغامضة، وبأنها محاولة لدفن الرؤوس في الرمال رغم استمرار العمليات الإرهابية التي تتعرض لها المناطق الحدودية التركية من جانب عناصر حزب العمال العمال الكردستاني، التي تخوض حربا ضد الدولة التركية منذ ثمانينيات القرن الماضي.

تعليقات المعارضة وإعلامييها على تصريحات أردوغان وبهتشلي اتسمت بعدم الموضوعية، وتجاهل كل ما قدمه حزب العدالة والتنمية الحاكم تحديدا في سبيل التوصل إلى حلول عملية لإنهاء ذلك الصراع الممتد منذ أكثر من أربعين عاما، وبدا الأمر وكأن النخبة السياسية الحاكمة لم تقدم شيئا، ولم تتخذ أي خطوة فعلية في سبيل إيجاد ذلك الحل طوال فترة وجودها في السلطة التي قاربت العشرين عاما.

الشعب الجمهوري بذر بذور المشكلة، والآن يسعى لحلها طمعا في أصوات الأكراد

الغريب في الأمر أن من يتقدم الصفوف ويرفع الصوت عاليا للمطالبة بحل المشكلة الكردية الآن هو حزب الشعب الجمهوري، معلنا عن وجود خطط لديه من شأنها القضاء على كل أشكال العنف، وإعادة الأمن والاستقرار لشرق وجنوب شرق البلاد، وذلك لأهداف انتخابية يسعى إلى تحقيقها من خلال استخدام ذلك الخطاب.

حزب الشعب الجمهوري الذي يسعى لحل هذه الأزمة، ويقدم نفسه كمخلص لتركيا من أهم وأكبر مشاكلها، هو نفسه من قام ببذر بذورها خلال وجوده في السلطة، عبر سياساته التي انتهجها لدعم القومية التركية وحدها دون غيرها من القوميات التي تعيش في كنف الجمهورية الجديدة التي ورثت الدولة العثمانية، وأقر من أجل ذلك مجموعة من القوانين لهدف وحيد هو محو أي مظهر يمكن أن ينم أو يشتم من خلاله أو يشير بأي صورة من الصور إلى إنتماء أيا من مواطنيه لقومية أخرى غير التركية، ومنع الأكراد وباقي القوميات والاثنيات العرقية التي تعيش داخل الدولة التركية من ممارسة حياتها بصورة طبيعية ثقافياً واجتماعياً مثلما كان عليه الحال في عهد الدولة العثمانية.

وبعيدا عن رصد المراحل التاريخية التي مرت بها القضية الكردية، وما تعرض له الأكراد من تهميش وإقصاء، وصولا إلى قيام حركات التمرد وبروز التنظيمات المسلحة الراغبة في الإنفصال عن الدولة التركية جراء تلك السياسة، فإن ما يعنينا هنا هو عودة الحديث بقوة عن ضرورة إيجاد حل عملي قابل للتنفيذ يلبي طموحات الأكراد، ويحقق لهم كامل حقوق المواطنة، ويحافظ في الوقت نفسه على كيان الدولة التركية سياسيا وجغرافيا، والاتهامات التي وجهت إلى تحالف الشعب (حزبي العدالة والتنمية، والحركة القومية) بإنكار تلك المشكلة والتغاضي عما تسببه من خسائر بشرية ومالية وما تثيره في نفوس قاطني المناطق الحدودية من خوف ورعب جراء ما يتعرضون له من عمليات تخريبية تقوم بها عناصر حزب العمال الكردستاني.

وهي اتهامات جانبها الصواب، وفيها تجاهل تام لكل قام به حزب العدالة والتنمية على مدى العقدين الماضيين، فالحزب يؤمن إيمانا راسخا أن نهضة تركيا الحقيقية ترتكز على عدة مبادئ اساسية، يشغل حل المشكلة التركية الحيز الأكبر فيها، كون ذلك -وفق وجهة نظر القيادة السياسية للحزب- يوقف نزيف موارد البلاد وثروتها البشرية، ويغلق باب التدخلات الخارجية.

العدالة والتنمية أول حزب تركي يسمح بتعلم اللغة الكردية واستخدامها

وسعيا للوصول إلى هذا الهدف قام العدالة والتنمية باتخاذ عدة خطوات في مجال الحقوق الاجتماعية والثقافية للأكراد، وذلك عقب وصوله إلى السلطة، في إطار إظهار حسن نواياه ورغبته في التوصل إلى حل نهائي لهذه المشكلة، وكان من أهم تلك الخطوات السماح بعمل دورات لتعليم اللغات الأخرى غير اللغة التركية عام 2003، فاتحا الباب على مصراعيه لتعلم اللغة الكردية، بل وقام بفتح عدد من الأقسام لتعليم تلك اللغات داخل الجامعات التركية، والاعتراف بحق التأليف والنشر باللغة الكردية، وفي 2009 تم لأول مرة افتتاح قناة تليفزيونية رسمية ناطقة باللغة الكردية ضمن مجموعة (تي. آر. تي) المملوكة للدولة، وفي 2012 تم السماح بتعليم اللغة الكردية كمادة اختيارية في المدارس، وفي تطور آخر لافت قررت الدولة في يناير/كانون الثاني 2013 السماح للمتهمين الأكراد باستخدام لغتهم الأم في الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء.

وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه، أعلن أردوغان حزمة جديدة من الإصلاحات الديمقراطية في البلاد، سُمح بموجبها بفتح مدارس ومعاهد خاصة تقوم بتدريس اللغات ومن ضمنها اللغة الكردية، كما أقر الدعاية السياسية والحزبية بلغات ولهجات أخرى غير التركية، وأمر بتغيير أسماء عدد من البلديات والقرى الكردية التي تم منحها أسماء تركية، وإعادة أسمائها القديمة لها، وقام البرلمان بتغليظ عقوبة الجرائم العنصرية، والتمييز بين المواطنيين على أساس القومية أو العرق أو اللغة، كما تم تغيير القسم الطلابي الذي يٌتلى في المدارس التركية كل صباح، كونه كان يشير إلى الطالب التركي حصرا.

مشروعات تنمية شرق وجنوب شرق الأناضول، وتوفير 3 ملايين فرصة عمل

أما على الصعيد الاقتصادي فقد احتلت قضية تسريع عملية تنمية شرق وجنوب شرق الأناضول جزءا كبيرا من اهتمامات حكومة العدالة والتنمية، كون تلك المنطقة من أكثر المناطق ذات الكثافة السكنية الكردية، كما أنها عانت ولا تزال من العمليات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني، ودفعت ثمنا غاليا جراء ذلك، ونظرا لتردي أوضاعها سعت الدولة التركية في ثمانينيات القرن الماضي إلى إقامة اكبر مشروع اقتصادي لتنميتها، وهو ما عُرف بمشروع (غاب) الذي يهدف إلى إقامة نهضة اقتصادية شاملة في كل القطاعات، خصوصا القطاع الزراعي، الذي يُعد الركيزة الأساسية للمشروع، والقيمة المضافة المهمة للاقتصاد التركي.

إلا أن المشروع شهد نوعا من التباطؤ في خطوات تنفيذه، ومع وصول العدالة والتنمية للسلطة، سعى إلى الدفع قدما نحو انهاء العمل في الكثير من تلك المشاريع المعطلة، خصوصا وأنها وفقا للدراسات الاقتصادية توفر فرص عمل لحوالي 3 ملايين فرد، معظمهم بطبيعة الحال من الأكراد العاطلين عن العمل والقرويين، فتم في 2003 تمهيد الطريق المقسم بين الولايات الكردية التسع (ديار بكر، وغازي عنتاب، وأديمان، وكيلس، وماردين، وشانلي أورفة، وسيرت، وشرناق، وبتلس إلى جانب فان وهكاري) وزيادة طوله من 40 كيلومترا إلى 444 كيلومترا، والانتهاء من توسعة مطار ديار بكر الذي يعد أكبر مطارات منطقة الأناضول، وأقرت الحكومة عام 2018 قروض لسكان ديار بكر الراغبين في المساهمة في تنمية منطقتهم، تبلغ قيمتها 50 مليون دولار، يتم تسديدها دون فوائد كونهم أكثر من تضرروا من الهجمات الإرهابية خلال الأعوام الماضية.

وفي 2018 أيضا تم رسميا افتتاح 591 مشروعاً في مختلف المجالات الاقتصادية والتعليمية والصحية والرياضية والسياحية، إذ زاد عدد الفصول الدراسية إلى 32 ألف فصل دراسي في مختلف مراحل التعليم الأساسية، وارتفع عدد الجامعات من 3 عام 2002 إلى 9 جامعات عام 2018، كما زادت أعداد المستشفيات من 63 عام 2002 إلى 128 مستشفى، وارتفع عدد الأطباء العاملين بها من 1863 طبيبا إلى 5555 طبيبا.

إلى جانب إعادة تأهيل البنية التحتية، ومشروعات الطاقة والأمن بما قيمته حوالي 438 مليون دولار، كما قامت الحكومة بتنفيذ 21 مشروعا في مجال الزراعة والغابات ومخازن التبريد ومد خطوط مياه الشرب، ومحطات معالجة المياة لاستخدامها في مجال الزراعة، ومصانع تعليب الخضر والفواكه، وفتح المجال أمام القطاع الخاص للاستثمار في المنطقة، ومساعدة الحكومة في خططها التنموية.

العدالة والتنمية وسياسة الاحتواء للأقليات والقوميات والطوائف الدينية

أما على الصعيد السياسي، فقد انتهج حزب العدالة والتنمية سياسة الاحتواء للأقليات العرقية والطوائف الدينية والقوميات، كالأكراد والأرمن والعلويين، خصوصا بعد تحالفه مع حزب الحركة القومية، الذي يتشدد في لهجته لصالح القومية التركية.

وفي هذا الإطار ضم الحزب لأعضائه العديد من السياسيين ذوي الأصول الكردية الذين تم إدراجهم ضمن الهيئة العليا للحزب مثل عبد الرحمن فرات أحد أحفاد الشيخ سعيد، وهو من أبرز القيادات الدينية والوقمية الكردية التاريخية المعروفة، إلى جانب كل من أورهان مير أوغلو، وعبد الرحمن كوروت، وبرهان كايا تورك، ومحمد قاسم جولبينار، وعبد الله كورت، كما أن لديه حاليا 50 نائبا برلمانيا من أصل كردي.

وفي إطار سعيه لحل المشكلة الكردية سياسيا، عمل العدالة والتنمية على عقد اجتماعات سرية ضمت عناصر من حزب العمال الكردستاني مع قيادات من جهاز الاستخبارات التركية، وهي الاجتماعات التي عُقدت في العاصمة النرويجية بعيدا عن الأضواء في إطار مبادرة السلام التي أطلقها الحزب عام 2009، إلا أن الكشف عن تلك اللقاءات أدى إلى استدعاء رئيس الاستخبارات التركية أمام النائب العام لإخذ أقواله في الاتهام الموجه إليه بالتخابر مع منظمة إرهابية، لكن الحكومة تدخلت وحسمت الأمر.

رفض الجناح المسلح لحزب العمال الكردستاني ودعوة عبد الله أوجلان لإلقاء السلاح

لتستمر المحادثات بعد ذلك بصورة علنية تحت عنوان “مشروع الوحدة والأخوة”، وتم الاتفاق على قيام الحكومة بإقرار حزمة من الإصلاحات الدستورية والقانونية تعيد للأكراد حقوقهم، مقابل قيام عناصر حزب العمال الكردستاني بإلقاء السلاح ومغادرة تركيا، وضمان دمج من لم يشترك منهم في عمليات تفجير وقتل في المجتمع، وتشكيل لجنة حكماء من الشخصيات العامة للترويج لفكرة الحل السياسي، واختيار حزب الشعوب الديمقراطي كهمزة وصل بين الحكومة وعبد الله أوجلان، لتبادل الآراء والأفكار لصياغة خريطة طريق واضحة ومحددة المعالم للعملية السياسية، وهي العملية التي توجت برسالة من عبد الله أوجلان خلال احتفالات عيد النيروز عام 2013، دعا فيها إلى إلقاء السلاح والسعي مع الحكومة التركية لحل المشكلة بالطرق السلمية، إلا أن رفض الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني لفكرة المصالحة السياسية، ورغبته في استمرار الكفاح المسلح ضد الدولة التركية حال دون إتمام تلك المبادرة، وعودة الاشتباكات مع الجيش التركي سواء في المناطق الحدودية أو داخل كل من شمالي العراق وسوريا.

لكن ذلك لم يوقف عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يقودها العدالة والتنمية للمناطق ذات الكثافة السكانية الكردية، بهدف استقطابهم والحيلولة دون انزلاقهم في دوامة الأفكار الإنفصالية التي تروج لها العناصر المسلحة بحزب العمال الكردستاني وحلفائه في الشمال السوري وحدات حماية الشعب المدعومين سياسيا وعسكريا ولوجستيا من الولايات المتحدة الأمريكية.

المصدر : الجزيرة مباشر