ماذا بقى من نصر أكتوبر؟

فارق كبير بين انتقاد بعض أخطاء المعركة، وبين إنكار حقيقة النصر

48 عاما مرت على نصر السادس من أكتوبر عام 1973 تغيرت خلالها أشياء كثيرة، مات الكثيرون ممن شاركوا في الحرب أو عاصروها، وولد جيل جديد علاقته بتلك الذكرى هي سطور يقراها في كتاب أو صحيفة، أو بعض الأفلام التي خلدت ذاك النصر، أو عبر متابعة بعض الاحتفالات السنوية بتلك الذكرى والتي تتراجع في مظاهرها عاما بعد عام، خاصة بعد أن غاب جيل أكتوبر من صدارة مشهد الحكم (كان المجلس العسكري برئاسة حسين طنطاوي هو آخر مجلس يضم عددا ممن شاركوا في حرب أكتوبر).

تغيرت السياسات أيضا، وأصبح العدو صديقا يستقبل بالأحضان والقبلات، وتحول حكام مصر من مصدر رعب للكيان الصهيوني إلى كنوز إستراتيجية، وأصبح التطبيع مع العدو والذي بدأته مصر هو السياسة الرسمية لحكام المنطقة الذين يتبارون الآن في كسب ود تل أبيب.

تعرضت المناهج الدراسية للتبديل والتشويه ليحذف منها ما يتصل بالجهاد ومقاومة الاحتلال، وليحل محله ما يسمى ثقافة السلام وما هو بسلام. لكن كل ذلك لم يغير حقيقة واحدة وهي أن الجيش المصري تمكن من قهر الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر حسب الدعاية الصهيونية، وأن الجيش المصري تمكن من عبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف الأسطوري، وتحرير مساحات لا باس بها من أرض سيناء خلال المعارك، ثم استكمال هذا التحرير عبر التفاوض لاحقا، وما كان لهذا التفاوض أن يحقق شيئا من دون النصر العسكري الذي سبقه، ولا تزال أرض سيناء تحتضن شواهد النصر في الحصون المنيعة لبقايا خط بارليف، ودبابة القائد الإسرائيلي الأسير عساف ياجوري، ومركز العمليات الإسرائيلية في تبة الشجرة وهو الذي زاره الرئيس السادات وأطلق من داخله كلمته الشهيرة “من هنا بدأت العسكرية المصرية الحديثة”، وهي وغيرها أماكن تستحق أن تنظم لها زيارات مستمرة من المدارس والجامعات ومراكز الشباب .. إلخ.

استغلال ثغرة الدفرسوار

هذه الحقيقة (النصر) كانت من البديهيات بالنسبة للمصريين والعرب على مدى العقود الماضية، لكن ما دفعني للتذكير بها هو ظهور أصوات من بني جلدتنا ومن بين تيارات وطنية وإسلامية تشكك في ذلك النصر، بل وصل الشطط ببعضها إلى اعتباره هزيمة، وهو ما يتفق – وإن لم يقصدوا- مع الدعاية الصهيونية التي توقن بالهزيمة سرا ولكنها تتظاهر بالانتصار لمجرد أن قوات العدو تمكنت من العبور غرب القناة ومحاصرة الجيش الثالث، فيما عرف بثغرة الدفرسوار، صحيح أن تلك الثغرة كانت كبوة عسكرية مؤقتة، وصحيح أنها أوجعتنا في حينها، وصحيح أنها دفعت قواتنا للانسحاب من أراض حررتها “مؤقتا”،إلا أنها انتهت في نهاية المطاف، وانسحبت قوات العدو، وأصبحت قناة السويس تحت السيادة المصرية بشكل كامل وعادت إليها حركة الملاحة الدولية، كما تحررت سيناء لاحقا عبر مفاوضات شاقة استند فيها المفاوض المصري إلى ذلك النصر العسكري.

فارق كبير بين مناهضة انقلاب عسكري، وبين تقدير واحترام ملحمة عسكرية (العبور) غسلت عار هزيمة يونيو 1967 المذلة، والتي لا تزال مصر تدفع بقايا فواتيرها حتى اليوم.

وفارق بين مناهضة تدخل الجيش في السياسة وهيمنته على الاقتصاد، وبين احترام تضحيات قادة وجنود -ينتمون لكل قرى ومدن مصر- جادوا بأرواحهم لتحقيق ذلك النصر.

وفارق كبير بين انتقاد بعض أخطاء المعركة، وبين إنكار حقيقة النصر الذي تحقق مهما كانت درجته، فلا يعرف قيمة هذا النصر إلا من عاش أجواء الهزيمة وتداعياتها، ومن عرف موازين القوة العسكرية بين الجيشين المصري والإسرائيلي، ومن عرف توازنات القوى الدولية لحظة الحرب.

ذكرت في مقال سابق في هذا الموقع أن حرب أكتوبر كما ثورة يناير هما طاقتا النور في عتمة الاستبداد والهزائم التي مر بها المصريون، كانت الأولى انتصارا عسكريا أزال عار سلسلة من الهزائم التي سبقته، وكادت ترسخ عقيدة الهزيمة، وكانت الثانية ( ثورة يناير) انتصارا سياسيا على اليأس من التغيير في مصر، ودعوت للإفراج عن وثائق ومراسلات حرب أكتوبر، التي لم يعد إخفاؤها خطرا على الأمن القومي، ولن يكون ظهورها مؤثرا بشكل سلبي على الحالة المعنوية بعد نصف قرن تقريبا على الحرب، لقد كشفت العديد من العواصم الكبرى وثائق تلك الحرب من جهتها، ويبقى أن تفرج مصر أيضا عن وثائقها ليعرف الشعب كل الحقائق من دون تهويل أو تهوين.

من واجب كل وطني-أيا كان توجهه السياسي- تنشيط الذاكرة الوطنية، وعدم السماح بالمزيد من تشويهها في ظل هوجة التطبيع التي تعم المنطقة تحت مسمى الاتفاقيات الإبراهيمية، والتي انطلقت أواخر حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب بتوقيع اتفاق التطبيع بين الإمارات والكيان الصهيوني، والتي تلاها اتفاقات أخرى مع البحرين والسودان، والمغرب، ومحاولات مع العراق وبقية الدول الخليجية.

هذه الموجة الجديدة من التهافت على التطبيع ستدهس في طريقها أي ذكريات مؤلمة للصهاينة، وعلى رأسها -بطبيعة الحال- نصر أكتوبر، لكن الذين تصدوا للتطبيع في مصر وغيرها من البلدان العربية من قبل قادرون على مواجهة أي اقتراب من مفاخرهم الوطنية، وقادرون على الحفاظ على ذاكرتهم الوطنية.

المصدر : الجزيرة مباشر