علي سالم.. عفاريت مصر الجديدة

والمؤكد أنه لا أخبار دقيقة عن إيمان البحر درويش من يوم اختفائه

علي سالم

تعودت منذ فترة ليست بالقليلة أن استيقظ من النوم لأطالع أخبار الأصدقاء، وأتبين من منهم كتب على فيسبوك أو اختفى.
في أغسطس الماضي حدثني صديقي الصحفي الشاب، أنه ينوي العمل بكل جهده خلال الأيام القادمة، لأنه أتم خطبته ويريد إتمام زواجه، بعد أن ضاع من عمره عام ونصف عام في السجن، “بتهمة الانضمام لجماعة محظورة رغم أنه يساري جدا “، وهو يريد أن يستقر ويؤسس أسرة.
غاب الصديق الشاب عدة أيام، ليفاجئني صديق أخر مشترك أنه اختفى، ولا أحد يعرف من أهله وأصدقائه وزملائه في مكان عمله عنه شيئا، ولا يزال مختفيا حتى الآن.
منذ عدة أسابيع تباينت الأخبار عن المطرب المصري الكبير إيمان البحر درويش بعد فيديو بثه على صفحته انتقد فيه التهاون في مسألة سد النهضة مطالبا بالتدخل القوي من أجل حماية النيل.
ما بين كلام أبنائه أنه مريض ويعالج من أزمة قلبية، وفي غرف العناية المركزة، وشائعات سفره لأمريكا التي نفاها هو شخصيا، واختفائه التي تداولها رواد التواصل الاجتماعي، غابت الحقيقة، والمؤكد أنه لا أخبار دقيقة عن إيمان البحر درويش من يوم اختفائه.
من فترة أبعد قليلا، كنت على تواصل مع الدبلوماسي يحيى نجم، وكان يكتب على فيسبوك وفي مجموعات متعددة عن سد النهضة، وفجأة اختفى نجم ليظهر بعدها في أمن الدولة، ويتم التحقيق معه، ويحبس خمسة عشر يوما، ومن لحظتها لم يعرض على نيابة ولا محكمة، ولا يعرف ذووه في أي مكان هو حتى الآن.
منذ أسابيع تعودت ان أنقب في قائمة الأصدقاء، حتى أطمئن عليهم فقد أصبحت أخاف من عفاريت مصر الجديدة بشكل مرضي.
عفاريت مصر الجديدة

اختفاء في لحظة

في أبريل /نيسان 1971، تدخل سيدة في منتصف الثلاثينات، إلى قسم مصر الجديدة في الحادية عشر مساء، لعمل محضر باختفاء زوجها في لحظة انطفاء الكهرباء لمدة ثانية واحدة، ولا يصدق ضابط الشرطة روايتها إذ كيف اختفى زوجها أستاذ القانون بجامعة القاهرة والشقة مغلقة، وتتوالى البلاغات باختفاءات مشابهه في أماكن متعددة بنفس الطريقة هكذا بدأ الكاتب المسرحي المشاغب على سالم مسرحيته (عفاريت مصر الجديدة).
علي سالم من مواليد 1936 بمحافظة دمياط، كتب للمسرح أربعين عملا مسرحيا، نالت الكثير من الشهرة منها ” أولادنا في لندن” “خشب الورد”، “ولا العفاريت الزرق”، ” إنت اللي قتلت الوحش “، “بكالوريوس في حكم الشعوب”، “أغنية على الممر”، أما أشهر المسرحيات التي لا تزال حتى الآن تثير جدلا كبيرا، فهي (مدرسة المشاغبين “، وهي المسرحية التي قيل إنها أفسدت التعليم في مصر.
المختفون ذو سمات متشابهة

عودة الي عفاريت مصر الجديدة، فقد لاحظ ضابط الشرطة ومعه بطلة المسرحية، المختفي زوجها رجل القانون، أن هناك سمات متشابهة لدي كل المختفين.
فالمختطفون جميعا يتمتعون بالمرح، وإن مقاس احذيتهم واحد (40) في إشارة الي توافق المختفين، (_ أبناء تيار واحد – أبناء جماعة واحدة – أبناء ثورة واحدة).
يبدأ ضابط الشرطة بطل المسرحية البحث، وعمل اللجان لكي يكشف غموض الجريمة، التي تتوالى في الشارع، ولا إشارة سوى أن الخاطفين، هم أقوى من جهاز الشرطة، ويستمر الوضع هكذا، حتى يعود اثنان من المختفين، هم أستاذ القانون وصحفي بأحد الجرائد، يعمل في بابي ” حظك اليوم والكلمات المقاطعة”.
يحاول ضابط البوليس والزوجة أستاذ المنطق بكلية الأداب بالجامعة، التوصل إلى أي خيط يدل على مكان الاختفاء أو شخصية الخاطفين، ولكن العائدين يلوذون بالصمت.
الملاحظة الكبرى الوحيدة هي فقدانهم لأمالهم وأحلامهم، وتحول دكتور القانون إلى مكتشف راقصات للرقص الشرقي، (فعدد الراقصات قليل جدا -على حد تعبيره) ويفتتح معهدا للرقص الشرقي.
أما الصحفي المختفي أو المختطف، والذي يعمل بجريدة الجمهورية، فقد تحول إلى قارئ فنجان ومنجم.
هكذا تغيرت الأحوال، وظهرت علامة جديدة عليهم فقد تحول مقاس أحذيتهم من مقاس 40 الي مقاس 44، في دلالة واضحة على التغيير الكبير في قيم ومعايير ومبادئ الشخصيات، فمعروف أن مقاس القدم لا يتغير بعد سن النضوج.
لا يكل بطل المسرحية والبطلة، عن البحث عن الذين اكتشفوا الجريمة، التي تحدث في لحظة انطفاء الكهرباء، والبحث عمن يحاول أن يشد مصر الجديدة إلى طريق التخدير واللهو والإلهاء، عن صناعة التاريخ والفنون الراقية.
عندما يضع البطل يديه على السر، يعقد مؤتمرا صحفيا ليعلن الحقيقة، ينطفئ النور ثانية واحدة، ويختفي البطل ليستمر الحال كما هو عليه، يتحول أستاذ القانون إلى صاحب معهد للرقص الشرقي، والصحفي إلى قارئ للطالع ولا يزال بقية المختطفين مختفين لكن بطلة العرض تضئ شمعة لتخبر الجميع بالحقيقة دفاعا عن مستقبل أمة.

مدرسة المشاغبين

هكذا تنتهي مسرحية على سالم التي قدمها المسرح القومي بالقاهرة في أبريل 1971 بطولة عبد الرحمن أبو زهرة ومحسنة توفيق ومن إخراج جلال الشرقاوي.
المفاجأة الكبرى لعلي سالم وجلال الشرقاوي، كانت في مسرحيتهما مدرسة المشاغبين، بطولة عادل إمام وسعيد صالح وسهير البابلي، في هذه المسرحية التي صنفها الكثيرون على أنها من أسباب تدهور التعليم في مصر، وأحدثت خللا في القيم الاجتماعية، وأشاعت جوا من الألفاظ والمصطلحات الفجة والغريبة في علاقة الطالب بالمدرسة والمعلمين.
مسرحية مدرسة المشاغبين لعلي سالم قدمت على المسرح عام 1973 أي بعد عرض مسرحية “عفاريت مصر الجديدة” بعامين، وهي مسرحية شهدت منحنى هبوط كبير في كتابة على سالم.
حاول سالم أن يستعيد بريقه السابق بمسرحيته “بكالوريوس في حكم الشعوب” عام 1985، لكن يبدو أن تأثير العفاريت كان أكبر من تخطي الأزمة، فقد استمر مسار علي سالم ليقف في نهاية حياته في خندق دولة الكيان الصهيوني مدافعا عن التطبيع وعن سياسات دولة الاحتلال في الأرض المحتلة.
رغم أن مشوار على سالم الإبداعي، أعمال مسرحية وسينمائية بين الكوميديا الخفيفة والكوميديا السوداء قد تكون لها قيمة فنية إلا أن الأعمال للإنسان تحسب بخواتيمها، وخاتمة على سالم وعفاريته انتهت في أحضان دولة الاحتلال مطبعا وبائعا للأرض والوطن ودم الشهداء.

المصدر : الجزيرة مباشر