رب أرني كيف تحيي الثورة!

الثورة المصرية

كعادة المنهزم الحزين في ذكرى مأساته أن يحول فضاءه الشخصي إلى ما يليق بخيبته، منكسرون كثر يسترجعون ذكرياتهم في لحظات اليأس التي يصحبونها بوصف الأليمة أو يطلقون عبارات غاضبة على كل من تسبب في ضياع واقع لم تجرأوا قبل حدوثه عن مجرد الحلم به. بعضهم من فرط إحباطهم ورغبتهم في تجاهل التفاصيل يطلقون حكمًا عامًا وربما مرفقا بشتائم ملخصها المهذب (شعب جبان لا يستحق الحياة).

سأكون صادقًا وأعترف أنني تمامًا مثل هؤلاء المنكسرين في الذكرى السنوية لأفضل حدث عايشته، خصوصًا وأن فعل المقاومة تضاءل حتى كاد يصير عدمًا، فما تبقى للهائمين غير التبرم وإلقاء التهم على الجسد العام والحاضنة الشعبية. وكأننا استنفدنا في الفترة بين (٢٥ من يناير – ١١ من فبراير٢٠١١) كل السعادة الممكنة، فتحولت ذكراها المتعاقبة إلى أيام ممتلئة بالنقيض.

تبدأ إحياء الذكرى عادة بقراءة ما كُتب عنها، وسماع بعض ما قيل فيها، قبل أن تحين الفقرة القهرية التي تبدأ عادة بمشاهدة مقطع فيديو صغير بغرض صقل المحفور في الذاكرة، ثم يخلف الفيديو فيديو آخر، وتمر الساعات والمحصلة ما قاله أمل دنقل على لسان سبارتاكوس (أحزان بلا جدوى ودمعة سدى)!

الذكرى هذه المرة ليست ذكرى عادية لربيع جيلي، بل تمثل مرور عقد كامل على الفردوس الضائع. في فقرة الحزن السنوي أعدت مشاهدة مقاطع جمعة الغضب المعتادة كمنهج دراسي أليم، استوقفني هذه المرة مقطع يمتد إلى ساعة ونصف الساعة شاهدته للمرة الأولى، يوثق بداية مظاهرات جمعة الغضب في مسجد مصطفى محمود، مرورًا بشارع جامعة الدول، وصولًا لمعركة كوبري قصر النيل الشهيرة، وأخيرًا ميدان التحرير بعد كر وفر طال ساعات بتوقيت الأرض، وطال لأيام بتوقيت من حضره.

الفيديو أو الوثيقة التاريخية يبرز أشخاص الحضور، لمعة الأمل في عيونهم وضحكاتهم العريضة. يتحدث معهم. يعطيهم مساحة للتعبير عن أنفسهم. طبقات اجتماعية مختلفة، كانت هذه هي المظاهرة الأولى لأغلبيتهم الساحقة وربما الأخيرة. بعضهم يتحدث مع المصور باللهجة العامية، آخرون بالفصحى، وغيرهم بالإنجليزية. ومع تعالي الهتافات وتزايد الغاز وتصاعد دراما المشهد، تختلف ردود الفعل ما بين هتافات أو سباب، يُجيبها دهس المدرعات للحالمين على كوبري قصر النيل. يستمر التقدم رغم كل شيء، والباقي تاريخ نعرفه جميعًا.

 

المقطع لا يقدم سردية جديدة لمن حضر هذه الأيام البعيدة/القريبة، ولكنها شهادة هامة خاصة بعد انقلاب ٣ يوليو وما سبقه من مظاهرات عارمة، وما تلاه من صمت شعبي بعد هيمنة الدبابة، وهبوط أسهم الشعب/ المارد الذي ضج يوم ٢٨ من يناير/كانون الثاني ٢٠١١ أو ما يسميه أحمد موسى بـ أسوأ يوم في تاريخ مصر. المارد الجبار الذي تحرك فجأة دون إنذار، وقارع نظامًا أمنيًا بُني في ثلاثين عامًا، حارب أمام كل قسم شرطة وأمام كل نقطة تمثل الجهاز الأمني صاحب السمعة السيئة. ومع تناثر معلومات عن تزويد مدرعة للجيش قوات الشرطة بالذخيرة، لم يتردد المارد وأحرقها معلنًا وسط التحرير أنه لا أصنام بعد اليوم. ومع حلول مساء هذا اليوم، كانت النتيجة صادمة للطرفين على حد سواء، الشعب ركب.

قبل أسبوع فقط من المعركة التي انتهت بإشعال النار في ٩٩ قسم شرطة ومئات المدرعات طبقًا لبيان وزارة الداخلية. من كان يتخيل أن هذا المارد سينفجر؟ أكثر النشطاء تفاؤلًا كان يميل إلى الظن أن الأعداد ستكون غير مسبوقة وربما ينتج عن الحراك إقالة العادلي وزير الداخلية ومحاسبة قتلة خالد سعيد. من كان يتصور في سنوات اليأس والركود أن حسني مبارك رأس النظام لـ٣٠ عامًا قد تزيحه ثورة محدد تاريخها سلفًا؟

سردية ثورتنا تقول إنه لولا الحشود التي خرجت من المناطق المهمشة ولولا مئات الآلاف الذين هتفوا لأول مرة في حياتهم. لولا حجارة أبناء الأحياء الشعبية أمام أقسام الشرطة، وشجاعتهم أمام المدرعات، لولا استبسال من يُقال عنهم الآن وقيل عنهم قبل ٢٠١١ إنهم شعب جبان لا يستحق التضحيات، لخسرنا لحظة الحلم ومشهد الانتصار القصير الذي عنى كل شيء.

حال المارد في سنوات الجمر والأمل قبل ٢٠١١، هو حاله نفسها في ٢٠٢١، لا يفهم لغة الأرقام. لا يعي النظريات، يشاهد الأخبار قليلًا ولا تستهويه عادة خطابات الرؤساء. يخشى من بطش السلطة عندما يكون وحده، لكنه يتحرك جماعيًا عندما تطرق بابه الفرصة. وما حدث في جمعة الغضب ليس (حلاوة روح) ولم يمت البطل، بل عاد إلى مخبئه في انتظار صياغة جديدة للمعادلة. أو كما كتب أحد الهائمين في انتظارها: رب أرني كيف تحيي الثورة!

المصدر : الجزيرة مباشر