بعد 10 سنوات .. الثورة التونسية تبحث عن التحرير!

الثورة التونسية في انتظار التحرير الاقتصادي

يقال إن لكل ثورة، ثورة مضادة، وفي تونس تحول الاستعجال في المطالب الاجتماعية والاقتصادية أكبر عدو للثورة ومهدد للتجربة الديمقراطية في ظل أزمات اقليمية جغراسياسية واضحة للعيان وقد ذكر لنا عدد من رجال التاريخ في تونس كيف كان الناس بعد الاستقلال يتمنون عودة الاحتلال باعتبار أن أحوالهم قد ساءت وكانت أفضل قبله.

الوضع الاقليمي الخطير وغير مستقر من خلال الوضع في سوريا وضياعها بين النفوذ الايراني والاستعمار الروسي والتواجد التركي في الشمال السوري وايضا التراوح بين التقدمات السياسية والتراجعات في الأزمة الليبية وما تشهده دولة المغرب في صراعها في إطار تتعرض فيه المنطقة العربية لتهديد مشروع الصهيونية العربية بقيادة مصر والامارات.

في ظل هذه التغيرات الاجتماعية والسياسية في تونس وخارجها، دخلت الثورة التونسية سنتها العاشرة وامتحانها لازال متواصلا لتزرع غصن الزيتون أو تغرق أكثر في حصارها الاجتماعي والاقتصادي مع سرعة شديدة في محركات الاستعجال في كل المطالب.

لقد تمكنت الثورة في سنتيها الاولى من رسم معالم الخارطة التنمية وسلة الاصلاحات العاجلة في هيكلة الاقتصاد وفي الادارة وفي المؤسسات العمومية وقد انتهجت حكومة الثورة سنة 2012 سياسة اقتصادية توسعية ابرزت دور الدولة من خلال محرك الاستهلاك والاستثمار العمومي في تدوير الاقتصاد وجلب الاستثمارات الضخمة غير ان هذا التمشي الوطني الاستراتيجي سرعان ما تم قطع الطريق أمامه باضطرابات عمالية أهمها الاضراب العام في البلاد في ديسمبر 2012 ثم عقبه اغتيالات سياسية في سنة 2013 حولت المشهد في البلاد.

المنجز السياسي و التداول السلمي على السلطة واحترام مواعيد الانتخابات وتوزيع السلط واقامة اللامركزية، معالم و اصلاحات سياسية لم تتحول الى ارقام اقتصادية

قام المشهد الجديد على اقامة التوازن بين منظومة الثورة والمنظومة القديمة الديمقراطية و هذا التوازن كانت علامته السياسية مفهوم التوافق الذي قاد البلاد بعد نتائج 2014 و كانت يبدو أن الاستقرار السياسي بعد ذلك سيتيح للتونسيين استئناف سريع لمسار التنمية و الاقلاع الاقتصادي ألا ان الحصيلة  اثبتت ان مسار تحرير الاقتصاد في تونس و إعادة توزيع الثروة مسارات لازالت  محاصرة  من مجموعة  متحكمين في الاقتصاد وفاسدين لا يريدون الخير للبلاد و للعباد  وزاد ذلك سوءا انهيار حزب نداء تونس و فقدان منظومة التوازن الى غاية انتخابات 2019 التي زادت مشهد بعثرة فوضوية.

إن المنجز السياسي و التداول السلمي على السلطة واحترام مواعيد الانتخابات وتوزيع السلط واقامة اللامركزية ، معالم و اصلاحات سياسية لم تتحول الى ارقام اقتصادية جيدة والى رفاهة اجتماعية وتعطلت كل الاصلاحات في الحياة الاقتصادية والاجتماعية  لتتصاعد أصوات و قوى تريد ان تأكل الثورة إما انتقاما أو لتعويض ضعف أو دعوة لمدرسة أخرى ثالثة و تزداد الاوضاع سوء ببروز  مشروع الصهيونية العربية في المنطقة  و خطورته على استقرار الديمقراطية في تونس من خلال أدوات داخلية وعلى ضعفها فان الكم الهائل من الدعم الخارجي لها يعطيها قدرة على امداد انفاس محركات تعطيل الثورة  وهنا يتنزل دور عبير موسي و حزبها الدستوري الحر في الانتقام من الثورة و اسقاطها في معركة الايديولوجية التي حسمها الدستور  واستعمال مصطلح الخوانجية و فزاعة الارهاب  في سباق كلنا ضد الخوانجية و يجدر الإشارة في هذا ان استعمال هكذا استقطاب لم يعد له نتائج والتونسيون فهموا غايات هذا الخطاب و مخاطره على النسيج المجتمعي و فقدوا الثقة فيه وفي أصحابه وسرعان ما تفطن اصحاب المشروع المعادي للثورة الى ضرورة تغيير اليافطة وجاري البحث….

ومع انكشاف خطاب الانتقام والصراع ومخاطره على البلاد يظهر الخطاب السياسي المنحصر في الضدية وسجين لعبة التموقع بين الحكم والمعارضة والذي تتزعمه الكتلة الديمقراطية ولقد كانت لها تجربة حكومة الفخفاخ التي اسقطتها الاغلبية البرلمانية لوجود شبهات فساد بقياد حركة النهضة عامل حرب انتقام اخرى تمس من استقرار الحكم في تونس وتزيد الوضع ارباكا. ولعل طريقة تعامل الكتلة مع قانون المالية لسنة 21 أكبر دليل على ضعف المسؤولية الوطنية في خطابها من خلال مقترحات عشوائية وشعبوية مصيرها عدم المرور لمخالفتها النظام الداخلي في فصل 63 ثم بعد ذلك تنظم خرجات اعلامية لاتهام الاغلبية البرلمانية بانها معادية لمصالح الشعب.

فتحت الثورة أمام كل التونسيين فرصة تاريخية ينتظرونها منذ الاستقلال

وأمام هذه التفلتات تظهر المعالجات السيئة والقضايا الخاطئة لمزيد تضييع بوصلة البلاد عن مسار الاصلاح الاقتصادي ومعركة النمو ليتم طرح تغيير النظام السياسي وهو غير مكتمل الأركان لا محكمة دستورية ولا اكتمال لمسار تنزيل اللامركزية. واخرون يريدون حل البرلمان ثم ليخرج الاتحاد على الساحة الوطنية ليدعو رئيس الجمهورية الى حوار اقتصادي واجتماعي. وقد تنبهت المركزية النقابية بعد تضييع فرصة الحوار الاجتماعي في 2013 اثر تأسيس المجلس الوطني للحوار الاجتماعي و بعد تضييع الفرصة الثانية في 2018 و رغم ذلك فانه لابد من تثمين وعي المركزية النقابية و انجاح مبادرتها لتأكيد اجماع سياسي حول انقاذ البلاد و الدخول في  مسار الاصلاحات الاقتصادية الهيكلية في اتجاه رسم  منوال تنمية جديد يقوم على القيمة المضافة و تحرير الاقتصاد و ضمان تكافؤ الفرص و التنافسية و تثمين كل ثروات البلاد الى جانب  تعجيل الاصلاحات الادارية و التشريعية خاصة و ان انتخابات 2019 دللت على قوة قوى التغيير والاصلاح المؤمنة بالثورة و الديمقراطية  ورغم اضطراب الحاصل في هذه القوى فإنها قادرة على إيقاف نزيف الحصار و ردع مخططات الافساد في البلاد و سيكون مجلس نواب الشعب ساحة حقيقية لتوحيد هذه القوى وضمان الاستقرار السياسي و الحكومي.

فتحت الثورة أمام كل التونسيين فرصة تاريخية ينتظرونها منذ الاستقلال للتخلص من اليات تفقيرهم من خلال منوال اقتصادي اقطاعي يعتمد على المنوالة واليد العاملة الرخيصة و القطيعة مع هذا المنوال مسار يتعطل باستمرار و حتما ستبني البلاد منوالها الاقتصادي الجديد ليستجيب لطموحات قطاعات واسعة من الشعب ارتفعت كثيرا بعد الثورة و قدر الثورة ان تنجح و تعطي شعب تونس كرامة بعد حرية و ديمقراطية وقد بدأت المؤشرات من خلال قانون الاقتصاد التضامني و قانون التمويل التشاركي في انتظار ثورة جبائية واحلال تكافؤ الفرص و فتح التنافسية و تركيز اسس اقتصاد السوق الاجتماعي الذي وحده كفيل بإحداث عدل اجتماعي عبر اعادة توزيع الثروة بين الفئات و الجهات و يزرع غصن الزيتون رغم قوى ارتداد الداخلية وقوى المعادية للديمقراطية في المنطقة العربية

المصدر : الجزيرة مباشر