الوضع البائس للروهينغيا في الجزيرة الطينية!

مأساة مستمرة

بدأت حكومة بنغلاديش بنقل الآلاف من لاجئي الروهينغيا الفارين إلى أراضيها، والناجين من حملة الإبادة الجماعية التي ارتكبت بواسطة القوات البورمية بحق الأقلية الروهينغية في ولاية أراكان بغرب بورما عام 2017، وذلك من مخيماتهم الواقعة في إقليم كوكسبازار المحاذي للحدود البورمية، إلى جزيرة نائية في مياه خليج البنغال.

ففي الثالث من شهر ديسمبر 2020 قامت السلطات البنغالية بنقل 1642 شخصاً من لاجئي الروهنيغيا من مخيم كوتوبالونغ إلى جزيرة نائية ـ غير مأهولة من قبل ـ في مياه خليج البنغال، وذلك على متن 7 عبارات تابعة للقوات البحرية البنغالية، ثم أعقبت ذلك بنقل الدفعة الثانية من هؤلاء في 29 ديسمبر 2020 وعددهم 1804 أشخاص، إلى تلك الجزيرة، ومن المقرر أن يتم نقل قرابة مائة ألف لاجئ إلى تلك الجزيرة في غضون الأيام القادمة من أصل قرابة مليون لاجئ روهينغي يقيمون على أراضيها.

وقد أثارت هذه العملية ردود أفعال دولية واسعة لأن نقل اللاجئين إلى هذه الجزيرة غير المأهولة ينطوي على مخاطر حقيقة على حياة هؤلاء اللاجئين، بسبب عدم صلاحيتها للاستيطان البشري من الناحية الفنية والجيولوجية والجغرافية وحتى المناخية، على الأقل في الوقت الراهن، كما أن عملية النقل تتم رغماً عن إرادة هؤلاء اللاجئين، وهو الأمر الذي يعد مخالفة للقانون الدولي الإنساني.

وهذه الجزيرة النائية تسمى باللغة المحلية هناك ( باشه سر ) وتعني هذه الكلمة (البر العائم ) ولها نصيب واف من اسمها

لذا تحفظت الأمم المتحدة على عملية نقل اللاجئين إلى تلك الجزيرة، وكذلك المفوضية العليا لشؤون اللاجئين المعنية أساساً بالأمر، حيث تجري عملية النقل دون مشاركة أو مشاورة منها، كما انتقدت منظمات حقوقية دولية كثيرة، مثل هيومان رايتس ووش وغيرها، وحتى بعض الدول الكبرى عبرت عدم رضاها عن نقل اللاجئين إلى هذه الجزيرة مثل الولايات المتحدة ومملكة المتحدة. وهنا يثار التساؤل، لماذا الحكومة البنغالية تصر على نقل لاجئي الروهنيغيا إلى هذه الجزيرة رغم مطالبات دولية بوقفها، ورغم علمها بالمخاطر التي سوف يواجها اللاجئون هناك؟

وقبل الإجابة على هذا التساؤل، نعرج إلى هذه الجزيرة لنعطي لمحة سريع عنها:

وهذه الجزيرة النائية تسمى باللغة المحلية هناك ( باشه سر) وتعني هذه الكلمة (البر العائم) ولها نصيب واف من اسمها وقد تشكلت منذ قرابة عشرين عاماً بالطمي و الغرين المحمولين إلى البحر بواسطة نهر ميغنا وذلك على إثر الانهيارات الأرضية التي حدثت في جبال الهملايا منذ عام 2006 . وتقع الجزيرة أمام دلتا نهر ميغنا في عرض البحر، وتبعد عن ساحل البر البنغالي قرابة 60 كم ، وتقدر مساحتها بأربعين كيلومترا مربعاً، وهي جزيرة طينية موحلة وأرضيتها هشة ورخوة للغاية، لأنها جزيرة غير صخرية، ومستوى سطحها قريب جداً من مستوى سطح البحر ، فلا توجد فيها تلال أو مرتفعات، وبالإجمال إنها جزيرة جرداء تفتقر إلى أدني المقومات للاستيطان البشري لذلك لم يستوطن فيها أحد من مواطني بنغلاديش في السابق .

والآن نعود للتساؤل مجدداً، لماذا تصر الحكومة البنغالية على نقل لاجئي الروهينغيا إلى تلك الجزيرة المعرضة للمخاطر، رغم مطالبات دولية بعدم نقلهم إليها؟

إذ تبرر الحكومة البنغالية عملية نقل اللاجئين إلى الجزيرة بالقول: إن الأماكن التي أقيمت فيها مخيمات لاجئي الروهنيغيا في إقليم كوكسبازار هي في الأصل أماكن غير صالحة لإقامة المخيمات، فمخيم كوتوبالونغ العملاق الذي يمتد في حيز واسع وكبير، ويقطنه قرابة 700 ألف لاجئ، وكذلك مخيم بالوخالي ، يفتقر أغلب مساكنهما إلى مقومات السلامة، لأنها بنيت بصورة عشوائية من قبل اللاجئين أنفسهم على عجل إبان أزمة النزوح الكبير دون مراعاة لجوانب السلامة. فمساكنهما إما هي أقيمت في أماكن مرتفعة حيث إنها معرضة لانهيارات أرضية، أو هي أقيمت في أماكن منخفضة جداً حيث إنها معرضة لفيضانات موسمية، وهناك قرابة 215 ألف شخص يواجهون خطراً حقيقياً في هذا الصدد، ومنهم قرابة 44 ألف شخص في خطر داهم في أي لحظة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى أن المناطق المتآخمة للحدود البورمية باتت مزدحمة بالمخيمات، وتعاني تلك المناطق من كثافة سكانية عالية لوجود قرابة مليون ومائتي ألف شخص بصورة استثنائية، مما أصبح فرض السيطرة الأمنية على المناطق الحدودية في غاية من الصعوبة، وبخاصة أنه بدأ تنشط في تلك المناطق العصابات التي تمتهن تجارة البشر والمخدرات.

فلذلك قررت الحكومة البنغالية نقل مجموعات من لاجئي الروهينغيا إلى جزيرة ( باشه سر ) لفك الاختناق الذي تشهده المناطق الحدودية مع بورما أولاً، ولفرض مزيد من السيطرة الأمنية على تلك المناطق ثانياً . وتقول الحكومة البنغالية في الصدد إنها أقامت منشآت نموذجية لإيواء ما يقرب من مائة ألف شخص في تلك الجزيرة في المرحلة الأولى، بتمويل وقدره ( 350 ) مليون دولار، وذلك في أرض مساحتها 6.7 كم مربع ، حيث تم بناء 1440 وحدة سكنية مزودة ب 120 مركزاً للإيواء من الأعاصير والكوارث الطبيعية ، بالإضافة إلى بعض المرافق الضرورية مثل عيادات طبية ومساجد . هذا وفق ما أعلنته الحكومة البنغالية، غير أن هناك أموراً جوهرية أخرى، إن لم تكن الحكومة البنغالية قد صرحت بها إلا أنه لا يمكن تجاهلها، وهي تتلخص في الآتي:

ـــ الضغط الداخلي على الحكومة: من المعروف أن المناطق التي يوجد فيها لاجئو الروهنيغيا هي عبارة عن جيب صغير متاخم للحدود البورمية ، ويعتبر من أكثر مناطق بنغلاديش فقراً من حيث وجود البنية التحية والفوقية وكذلك الموارد الاقتصادية، والحال كذلك دخول قرابة مليون ومائتي ألف شخص بصورة استثنائية أحدث ضغطاً هائلاً على البنية التحية والمرافق العامة وكذلك على فرص العمل والموارد الاقتصادية القليلة المتاحة هناك، كما أن أسعار السلع والخدمات شهدت ارتفاعا حاداً نتيجة زيادة الطلب، وبدأ الأهالي والسكان المحليون يتذمرون من الوضع المعيشي في مناطق وجود اللاجئين، وللأسف لقد ترجم بعض الأهالي الشعور بالتذمر بافتعال أعمال عنف بحق لاجئي الروهنيغيا في حوادث عدة متفرقة وذلك بحرق مخيماتهم . وهذا الأمر وضع الحكومة البنغالية أمام ضغط شعبي وسخط داخلي كبيرين.

ـــ ومازال  التساؤل، لماذا الحكومة البنغالية اختارت جزيرة (باشة سر) لتوطين الروهينغيا دون غيرها، وللإجابة على هذا التساؤل يجب أخذ عدة أمور في الحسبان:

أولاً : غياب أي أفق للحل السياسي بشأن قضية لاجئ الروهنيغيا ببنغلاديش في المنظور القريب : ففي الوقت الحاضر وصلت الحكومة البنغالية إلى مرحلة القناعة التامة بأن أزمة لاجئ الروهنيغيا في بلادها لن يتم حلها سريعاً في المنظور القريب، لأن الحكومة البورمية ليست لديها إرادة سياسية في حلها، وهي غير مستعدة لاستعادة الروهينغيا إلى أراضيها، وكل ما جرى في الثلاث سنوات الماضية من مفاوضات ثنائية وزيارات متبادلة بين مسؤولي البلدين، لا تعدو كونها محاولة بورمية لإطالة أمد القضية واللعب بعامل الوقت ، وتضليل الرأي العام  المجتمع الدولي ، وهي في الحقيقة لا تخطو إلى الآن أية خطوة جادة على الأرض نحو استقبال الروهينغيا مجدداً في أراكان . كما أن الدول الإقليمية من جهتها غير معنية بحل هذه الأزمة وبل بعض الدول الإقليمية الكبرى اصطف خلف بورما ويتواطأ معها من أجل حصر القضية الروهينغية في إطار الرواية البورمية الكاذبة، كما أن المجتمع الدولي لم يعد يولي أزمة لاجئي الروهينغيا بالقدر الكافي من الاهتمام، لذا أقدمت الحكومة البنغالية على هذه المجازفة الخطرة بنقل الروهنيغيا إلى تلك الجزيرة النائية، ولعل ذلك يأتي للفت انتباه المجتمع الدولي إلى هذه القضية الإنسانية التي باتت شبه منسية من الجميع.

ثانياً : التوجس من الحكومة الهندية : على الرغم من أن الحكومة البنغالية الحالية بزعامة حزب رابطة عوامي تقيم علاقات سياسية متينة مع الحكومة الهندية الحالية بزعامة حزب بهاراتيا جناتا  (القومي المتشدد) في تناغم تام ، إلا أن هناك صراعاً خفياً ظل يلقي بظلاله على العلاقات الهندية البنغالية بصورة دائمة فيما يتعلق بالحدود البحرية بين البلدين لوجود مكامن الوقود الأحفوري في أعماق خليج البنغال ، وكلما تظهر جزيرة في مياه خليج البنغال ( على غرار جزيرة باشة سر ) ، تسارع الحكومة الهندية بادعاء ملكيتها لتلك الجزيرة . فقد كانت هناك جزيرة في مياه خليج البنغال وهي ليس ببعيد عن جزيرة ( باشه سر ) ظلت الدولتان تتنازعان بادعاء ملكيتها ، لكل منهما لمدة تزيد عن ثلاثة عقود ، ولم تنته أزمتها إلا بعد غرقها تحت أمواج مياه خليج البنغال قبل عدة سنوات . ولعل سرعة إحداث منشآت في جزيرة ( باشه سر ) من قبل حكومة بنغلاديش ، تأتي توجساً من الحكومة الهندية لما قد تدعي ملكيتها لها ، وبذلك هي قد تصيد عصفورين بحجر.

ثالثاً : الدور الصيني السلبي في القضية الروهينغية : أن الصين لها علاقات اقتصادية واسعة مع كل من بنغلاديش وبورما ، إذ إنها تقيم في كلا البلدين مشروعات تنموية كثيرة بفائض رأسمالها الضخم ، وفي حالة القضية الروهينغية فإن الصين قد اصطفت إلى جانب بورما ، بل وأصبحت بمثابة وكيلها غير الشرعي للدفاع عن سياسات بورما وجرائمها بحق الروهينغيا في المحافل الدولية لاعتبارات الجيوسياسية ، وبما أن إبعاد الروهنيغيا عن  إقليم أراكان وتشتيتهم في أماكن متفرقة بعيداً عنها ، باتت مصلحة صينية لوجود عشرات من المشروعات الضخمة لها فيها ، ومطلب بورمي بالدرجة الأولى ، فإنه قد يكون هناك إيعاز صيني إلى الحكومة البنغالية لنقل الروهنيغيا إلى تلك الجزيرة النائية عن طريق الإغراء الاقتصادي ، بدليل أن مشروع جزيرة ( باشه سر ) تم تنفيذه بتبرعات دول أجنبية ومنها الصين بكل تأكيد ، لأن الذين صمموا المشروع ونفذوه هم مهندسون صينيون وشركات صينية .

لماذا يرفض لاجئو الروهينغيا الذهاب إلى جزيرة (باشه سر)؟

الروهنيغيا في مخيمات كوتوبالونغ وغيرها من الأماكن بإقليم كوكسبازار لا يعيشون في وضع مترف ولا يتمتعون بحياة فارهة ــ قد يظن بعض أن ذلك مرد رفضهم الذهاب إلى جزيرة باشه سر ــ  بل يعيشون في مخيمات بنيت من سيقان البامبو والأعشاش وأغطية البلاستيك ، وهم في أسوأ حالاتهم الإنسانية ، ولكن رغم ذلك توجد هناك ميزة لإقليم كوكسبازار بالنسبة للروهينغيا وهي ، أن هذا الإقليم التابع لبنغلاديش يعتبر امتدادا لبيئة الروهينغيا الطبيعية باعتبارات لغوية وثقافية وجغرافية ، حيث إن ولاية أراكان موطن الروهينغيا على مرمى حجر منه ، مما يمكنهم على البقاء على تواصل دائم مع من تبقى لهم من الأهالي والأقارب داخل أراكان ، و من هنا يحدوهم أمل العودة إلى ديارهم وهم على مسافة قريبة منها. ومما لا شك فيه أن وضع مساكن جزيرة ( باشه سر) التي أعدت من قبل حكومة بنغلاديش سوف يكون أفضل بكثير من وضع مساكن مخيمات كوتوبالونغ أو بالوخالي ، ولكن  نقل لاجئي الروهنيغيا إلى تلك الجزيرة كارثة بكل ما تعنيه الكلمة ، لأنها تقع في منطقة تتعرض للأعاصير والأمطار الطوفانية خلال معظم شهور السنة ، وبل يتشكل منها معظم الأعاصير التي تضرب دول المنطقة ، وحتى المناطق الواقعة في البر الرئيسي لبنغلاديش حول دلتا نهر ميغنا تكون غارقة بالمياه خلال فترة الأمطار الموسمية ، فما بال الجزيرة وهي طافية  أصلا في مياه خليج البنغال ، كما أن هذه المنطقة تحديداً معرضة للزلازل ، فاذا وقع زلزال بمتوسط الدرجات حول الجزيرة أو في أعماق خليج البنغال كفيل بإغراق الجزيرة بأمواج تسونامي ، بالإضافة إلى ذلك أن الجزيرة تفتقر إلى مصادر المياه الصالحة للشرب ، فلا توجد فيها المياه العذبة ، والمصدر الوحيد للمياه العذبة هو مياه الأمطار التي تتجمع خلال موسم الأمطار في البرك والمستنقعات . وكذلك الجزيرة تفتقر إلى الموارد الاقتصادية الذاتية، وأراضيها أيضاً غير صالحة للزراعة وذلك نظراً لمستويات الملوحة العالية في التربة، كما أنه لا توجد فيها وحولها أسواق السلع والاحتياجات الإنسانية الأساسية، والأسوأ من ذلك أن الجزيرة غير موصولة بخطوط النقل البحري والمواصلات بشكل المنتظم، مما يجعل من الجزيرة معتقلاً أكثر من كونها مخيمات للاجئين.

وبالنظر إلى ما ذكر آنفاً نقل لاجئي الروهينغيا إلى تلك الجزيرة النائية يعني تعريضهم للمخاطر وهو عمل غير إنساني، كما أنه إبعاد لهم عن بيئتهم الطبيعية، وهو في نفس الوقت نوع من التوطين في بنغلاديش وهو الأمر الذي تريده الحكومة البورمية من تهجيرهم إليها بالضبط، مما يعني قطع أمل العودة إلى ديارهم ووطنهم نهائياً، وبالتالي يصبح وضع الروهنيغيا في بنغلاديش مثل وضع البيهاريين الذين ظلوا في البلاد عالقين منذ خمسة عقود على أثر انفصال بنغلاديش عن باكستان.

وفي النهاية موطنالروهينغيا لا هي مخيمات كوكسبازار ولا هي مخيمات جزيرة (باشه سر ) النائية ، وإنما هي ولاية أراكان في بورما ، لذلك فإذا أرادت حكومة بنغلاديش حل هذه المعضلة يجب عليها طرح قضية لاجئي الروهينغيا في أراضيها ،  على المسرح الدولي بقوة من خلال تفعيل دبلوماسيتها ، وبحشد الرأي العام الدولي لممارسة الضغوط الحقيقة على الحكومة البورمية ، وذلك لاستعادة الروهينغيا من قبلها في أقرب وقت دون مماطلة ، وإجراء المفاوضات بشأنها مع الحكومة البورمية بإشراك الأمم المتحدة والدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي لضمان العودة الطوعية لهم بكرامة وبشكل مستدام ، بعيداً عن العراب الصيني الذي يحاول إبقاء أزمة لاجئ الروهينغيا رهن تأثير سياساتها الإقليمية بعقد لقاءات ثلاثية غير مجدية، كما هو متوقع في قادم الأيام.

 

المصدر : الجزيرة مباشر