ألمانيا ومرحلة ما بعد ميركل!

ميركل

بكل سلاسة وهدوء بدأت مرحلة ما بعد المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في الظهور، فقد انتهت انتخابات الحزب المسيحي الاجتماعي حزب المستشارة بانتخاب “أرمن لاشت” المرشح من ضمن ثلاثة مرشحين للمنصب لتولي زعامة الحزب.

انتخابات تمت في أجواء غير عادية ، وتم التصويت بتقنية الإنترنت، لكنها انتهت بنجاح من دون تسجيل أي اعتراضات، مما يبرهن على قوة الحزب ومدى تماسكه من جهة، ومدى التزام ممثلي أعضاء الحزب باختيار الأنجح والأقدر على تولي الزعامة وسط تحديات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي الداخلي والخارجي في ظل أزمة الكرونا.

أرمن لاشيت زعيم الحزب الجديد والمرشح مستقبلا لمنصب المستشار،  ليس غريبا على المناصب الحكومية،  فهو رئيس وزراء ولاية شمال الراين فستفاليا ذات الكثافة السكانية الأكبر في ألمانيا 16 مليون نسمة. سبق له ممارسة  مهنة الصحافة، وهو معروف باتجاهه الليبرالي الوسطى، نفس الخط السياسي للمستشارة أنغيلا ميركل.

في الغالب يتبع الحزب الاجتماعي المسيحي توأمه الحزب الديمقراطي دون اختلاف في وجهات النظر

مما لا شك فيه أن اختياره يؤكد أن هناك رغبة أكيدة لدى الحزب في الاستمرار على نهج ميركل السياسي في المرحلة القادمة.  وجاء ذلك على عكس التوقعات التي رجحت كفة المنافس الأصعب الاقتصادي “فريدريك ميرتس” اليميني المتحفظ ، والمعروف بتشدده في قضية الهجرة،  يصنف كذلك سياسيا واحدا من الشعبويين الذين ينتهجون أسلوب خطابات دغدغة المشاعر، وأن ألمانيا للألمان، ورغم عدم توليه أي منصب حكومي فإن تيارا قويا كان يدعمه أملا في أن ينجح في لم صفوف الحزب، وأن يعود الناخبين الذين انشقوا عنه وذهبوا إلى إعطاء أصواتهم لحزب البديل الشعبوي المناهض للاجانب والاسلام،  أو حزب الخضر احتجاجا علي سياسة ميركل المنفتحة تجاه الهجرة.

بما أن زعيم الحزب سيترشح بشكل تلقائي في منصب المستشارية في شهر سبتمبر القادم، والذي سيصبح خاليا بدوره بعد انقضاء فترة المستشارة ميركل،  فإنه من المؤكد أن “أرمن لاشيت” سيصبح المرشح الرئيسي للحزب، لكن لن يكون ذلك بشكل حاسم قبل الاتفاق مع الحزب المسيحي الاجتماعي في ولاية بافاريا برئاسة “ماركوس زودر “وهو الحزب التوأم لحزب ميركل.

في الغالب يتبع الحزب الاجتماعي المسيحي توأمه الحزب الديمقراطي دون اختلاف في وجهات النظر، لكن في هذه المرة يبدو أن قوة “ماركوس زودر” رئيس الحزب البافاري، قد تعيد حسابات المرشحين من أجل اختيار المرشح الأقوى، فهو يعتبر من الشخصيات ذات الشعبية،  وقد يبدو أن له طموحا في الترشح للمنصب، لكن لا يمكن التكهن بذلك حاليا،  فالوقت مازال مبكرا، غير أن استطلاعات الرأي تشير في هذا الصدد إلى أن 55% من الألمان و80% من أنصار الحزب المسيحي الاجتماعي يرون أن زودر مرشح مقبول لمنصب المستشارية.

من وجهة نظري فإن حظوظ” لاشت ” لخلافة ميركل هي الأوفر حظا

في غضون الأسابيع القادمة سوف تظهر ملامح اختيار الحزب لمرشحه، لكن الحقيقة هنا تقول إن زودر الذي يقول دائما إن مكانه في بافاريا لا يأتي من فراغ،  إذ إن الولاية هي الأقوى اقتصاديا والأكثر ثراء من باقي الولايات الألمانية، لكن قراءة المشهد السياسي لنشاطاته تؤكد أنه يحاول أن يثبت قوته كزعيم سياسي يمكن أن يخلف ميركل، ففي أزمة الكورونا اتخذ عدة قرارات بشكل منفرد بشأن الإغلاق أو كيفية مواجهة الأزمة دون الرجوع إلى القرار الجماعي على مستوى الولايات،  مثل انفراده بقرار إلزام المواطنين في ولاية بافاريا بارتداء كمامات خاصة تسمي” FFB2 “علي عكس باقي الولايات، وهي وفقا للمراقبين محاولة لإثبات نفوذه السياسي وقدرته علي اتخاذ القرار كزعيم سياسي كبير.

من وجهة نظري فإن حظوظ” لاشت ” لخلافة ميركل هي الأوفر حظا،  لأنه من أكثر المؤيدين لخطها السياسي، ثم إنه كان وزيرا للهجرة وشؤون اللاجئين في حكومتها،  ويعرف الكثير عن هذا الملف الذي تبنته ميركل، فهو يرى أنه يمكن الاستفادة من المهاجرين الذين يصلون إلى البلاد على عكس الذين يعارضون هذا النهج.

المستشارة الألمانية وخليفتها المحتمل في المستشارية لاشيت يعرفان قدرة ألمانيا القوية في أعداد الأفراد في سوق العمل، لهذا لم يزعجهم علي الإطلاق فتح باب الهجرة في سنة 2015 ، وقد أكدت ميركل ذلك في خطاب لها في أغسطس من العام الماضي عندما قالت لقد نجحنا في ذلك..في إشارة إلى التقارير التي أفادت أن أكثر من 10 آلاف لاجئ من الذين وصلوا إلى ألمانيا منذ 2015 قد أتقنوا اللغة بما يكفي للالتحاق بجامعة ألمانية. أما أكثر من نصف اللاجئين فهم يعملون ويدفعون الضرائب. وقد أثبتت التقارير التي تهتم بأحوال المهاجرين أن أطفال ومراهقين تصل نسبتهم إلى 80% من بين الأطفال والمراهقين اللاجئين نجحوا في الاندماج، ويقولون إن لديهم شعورا قويا بالانتماء إلى المجتمع وإلى مدارسهم الألمانية.

لا شك أن الطريق سيكون معبدا أمام لاشيت لاعتلاء كرسي المستشارية ، خاصة وأن التقارير أثنت على الرجل بوصفه مناصرا لقضايا العدالة الاجتماعية، وينتهج الأسلوب الإنساني في حل القضايا بعيدا عن ركوب موجة النعرات القومية والعداء مع الأقليات.

جدير بالذكر أن الشعبويين الذين كانوا يشكلون أكبر عقبة في مسيرة المستشارة الألمانية،  فقدوا نصيرا لهم بنهاية حقبة الرئيس الأمريكي ترمب،  مما سيساهم بالتأكيد في فرص نجاح لاشيت لتولي منصب المستشارية في شهر سبتمبر القادم، وأن من أكثر وأهم أولويات المستشار الجديد ستكون الاهتمام ببناء الاقتصاد الألماني بعد جائحة الكرونا،  واستمرار الحفاظ على وحدة الصف ونبذ الشعبويين الذين أثبتت الأيام أنهم خطر على مستقبل الشعوب بعد ما فعلوه في الكونغرس الأمريكي.

المصدر : الجزيرة مباشر