فشل مع سبق الإصرار والترصد!

المتابع لسير الأحداث في مصر لاسيما ملفاتها الكبرى من بعد سيطرة الجيش على مقاليد السلطة والإطاحة بالرئيس المنتخب، يدرك عملية الهدم المنظم لبنيان الدولة، والسعي الحثيث للتفريط في مقدراتها ومقوماتها، بما ينذر بتفكيكها وتمزيقها.

ويدعم وجهة النظر هذه وقوع الكوارث الكبرى وفق جدول زمني شبه سنوي، بحيث لا تخلو سنة من كارثة ولا عام من جملة طوام، ولنبدأ من التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير وتجييش مؤسسات الدولة لتنفيذ ذلك، بداية من القضاء المصري الذي حكم بالتنازل عن الجزيرتين، والبرلمان الذي صدق على التنازل وأيد الحكم في دورته السابقة، وفي دورته الجديدة عين السيسي القاضي حنفي الجبالي الذي أصدر الحكم نائبا في البرلمان ليتولى رئاسته مكافأة له، وأصبح من المضحكات المبكيات أن القول بمصرية الجزر يُعد من خوارم الوطنية!

ثم جاءت الطامة التي أنست ما قبلها بالتفريط في حقوق مصر التاريخية في مياه النيل شريان الحياة لكل المصريين، من خلال توقيع السيسي على اتفاقية مبادئ جديدة مع إثيوبيا سلبت مصر كافة حقوقها في تنظيم الاستفادة من مياه النيل، وحقها في منع دول المنبع من أي عمل يؤثر على حصتها السنوية، وبعد أن شارفت إثيوبيا على الانتهاء من أعمال سد النهضة وسارعت بمرحلة التخزين، وظهر التأثير المبكر على حصة مصر، عندها بدأت الخارجية المصرية في الاعتراض على استحياء ثم لجأت للشكوى في المحافل الدولية، وأعلنت أن خيارها الوحيد هو التمسك بسلاح التفاوض، الذي قابله الجانب الإثيوبي بكل غطرسة وصلف، حتى صرح أخيرا عضو وفد إثيوبيا في المفاوضات “يلما سيليشي” بقوله: لا يوجد ما يلزم إثيوبيا قانونيا بالالتزام بالتفاوض.

توج ذلك كله الإعلان عن إغلاق مصنع الحديد والصلب، أحد أكبر المشاريع في تاريخ مصر الحديث

إن كانت جريمة التفريط في مياه النيل أم الجرائم وتصنف تحت عنوان الخيانة العظمى، فإن من جملة الجرائم المائية، اتفاقية ترسيم الحدود مع اليونان وقبرص الرومية، التي تم التنازل فيها عن أجزاء من حدود مصر البحرية، مكايدة لتركيا ونكاية في أردوغان!!

إلى هنا مازال فريق ممن يرفضون تصرفات النظام المصري، يَعْزُون ما سبق من كوارث إلى سعي السيسي إلى فعل ذلك تحت وطأة رد الجميل واستمرار تدفق الدعم الخليجي، والحصول على الشرعية الأفريقية، حتى أطبقت جائحة كورونا التي اجتاحت العالم بأثره، فرأينا نظام السيسي في الوقت الذي بدأ فيه الجميع في أخذ الحيطة وفرض الإجراءات الاحترازية، يتجاهل الأمر ويستقبل سياحا من الصين، وينكر تفشي الوباء ويرسل المساعدات إلى الدول الكبرى، حتى استفحل الأمر وأصبحت مصر من أكثر الأماكن خطورة حسب بيانات من أمريكا وألمانيا، وظهرت الفضيحة من بوابة الرياضة عندما سافر فريق رياضي إلى تونس التي اكتشفت إصابة أغلب اللاعبين المصريين والطاقم المرافق لهم، وتكرر هذا مع المسحات التي أجريت للفرق الكروية داخل مصر فكان معدل الإصابة لا يقل عن ثلث الفريق، وتبع ذلك كارثة نقص الأكسجين في المستشفيات، ووقوع حالات وفاة في أكثر من مكان، وظهر قصور القطاع الصحي في الوقت الذي يتباهى فيه السيسي بالمنتجعات والقصور، وزاد الطين بلة وَحْلا إصرار وزارة التعليم على استمرار الدراسة طوال الفترة السابقة، ومع سرعة انتقال العدوى بين الأطفال، وعدم ظهور أعراض الكورونا غالبا عليهم، نقلوا العدوى إلى المدرسين و الأهالي، بما يؤكد أن الأمر ليس من قبيل الفشل في الإدارة، أو الجهل بالسياسة وإنما هو تعمد للفشل مع سبق الإصرار عليه، والترصد لكل ما يوصل إليه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “سياسة الفشل”.

توج ذلك كله الإعلان عن إغلاق مصنع الحديد والصلب، أحد أكبر المشاريع في تاريخ مصر الحديث، وأول مصنع للحديد في الشرق الأوسط، حيث أنشأ في عام 1954 ويعمل فيه أكثر من 7500 موظف تم تسريحهم والاستغناء عنهم، وعلى من يقول بأن خسائر المصنع هي سبب إغلاقه، أن يراجع تصريح الحكومة المصرية التي أعلنت عن الاتفاق مع ‏شركة “سيمنز” الألمانية على إنشاء خط لقطار كهربائي سريع يربط منتجعات البحر الأحمر بمنتجعات الساحل الشمالي مرورا بالعاصمة الإدارية الجديدة، بتكلفة 20 مليار دولار (360 مليار جنيه) وهذا الخط لا يخدم إلا حوالي 2% من المصريين ! أليس الحفاظ على صرح الحديد والصلب، يصب في صالح الشعب ويحافظ على أصول الدولة أكثر من المنتجعات الفارهة والناطحات الشاهقة؟!

وعلق أحد المراقبين بأن السيسي نفسه رفض إنفاق 10 مليارات جنيه فقط لتطوير السكة الحديد التي تخدم الشعب المصري كله!

هذه الأمثلة القليلة التي سقتها تؤكد أننا إزاء مخطط لإفشال الدولة، وليس فشلا في إدارتها

لو كان هذا الإسراف في الرفاهيات والتقتير في الضروريات من خزينة الدولة لكان سفها وعيبا، فما بالك وهو من القروض والديون التي ترهن مصر وقرارها، وتكبل مستقبل الأجيال القادمة من أولادها.

هذه الأمثلة القليلة التي سقتها تؤكد أننا إزاء مخطط لإفشال الدولة، وليس فشلا في إدارتها، وأن ما خسرته مصر في هذه الملفات الكبرى ينقض بنيانها من القواعد، ولا يمكن أن تكون خيارات أغبى الأنظمة تصب دائما في نفس الاتجاه الخطأ، وما أسلفناه من خيارات نظام السيسي تجاوزت مرحلة الخطأ والخطيئة، ولابد للعقلاء من كشف الحقيقة، لأن الأمر جد خطير، والفارق كبير بين من جاء ليحكم ويسيطر، وبين من جاء ليفتت ويقسم.

المصدر : الجزيرة مباشر