الشّيخ عدنان السّقّا؛ رحيلٌ ليسَ كأيّ رحيل

الشيخ عدنان السقا

بفقده لم تفقد حمص شيخها الأبرز فحسب، بل فقدت المؤسّسة الدّينيّة في سوريا ركنًا متينًا من أركانها ورمزًا من أكثر رموزها الفاعلة.

في حمص التي يضرب بها المثل بلطف أهلها وجمال أرواحهم وطيب معشرهم ولد الشّيخ عدنان السّقا عام 1942م، وكان شعلةً في الذّكاء والتفوّق وحصّل مجموعًا في الثّانويّة العامّة يؤهّله دخول كليّة الطّب البشري غير أنّ شيخه اقترح عليه أن يدرس في كليّة الشريعة في جامعة دمشق، وهو فهمٌ عميقٌ يقوم على توجيه أهل التميّز العلميّ لدراسة العلوم الشرعيّة.

منذ بدايات شبابه كان الشّيخ عدنان يحمل “كاريزما” جاذبة لمن حوله، وله من مؤهلات التأثير ما لا يتوفّر للكثيرين من دارسي العلوم الشرعيّة، وتنامت هذه الكاريزما بعد أن سقاها خلقًا رفيعًا، وتواضعًا طبعيًّا لا تكلّف فيه، ورقّة في القلب مهيمنة، وشفافية في الرّوح تنعكسُ من باطنه على ظاهره، وطلاقةً في اللّسان بلا تقعّر، وحجّةً في الحوار بغير إرادة الإفحام، وسخاءً في العَبرةِ دون اعتصار العين.

كان معافىً تمامًا من آفة التّعصّب للانتماء، وكان أوسع من شرنقة التيّار والتوجّه

الشّيخ عدنان السّقّا صوفيّ النّشأة، صوفيّ القلب والرّوح، صوفيُّ السّلوك، وهو صوفيٌّ بعيدٌ عن الشّطح فكان عنوان تصوّفه تزكية القلب وإرواء الرّوح بالذّكر، وصقلُ النّفس بالحبّ، معتمدًا على الدّليل الشّرعيّ مبتعدًا عن المبالغة.

والأهمّ من ذلك كلّه أنّه كان معافىً تمامًا من آفة التّعصّب للانتماء، وكان أوسع من شرنقة التيّار والتوجّه، فكان عقليّةً تجميعيّةً فذّةً، تتجاوز جمع الصفوف بالتّنظير القوليّ إلى انتهاج السّلوك العمليّ في تحقيق ذلك.

ومن الأمثلة العمليّة على ذلك أنّه وهو الرّمز الدّعوي الكبير المنتمي للمشرب الصّوفيّ، والدّاعية الذي تؤمُّ الجماهير مسجده ومجالسه؛ إلّا أنّه كان يحرص على حضور الدّروس العلميّة للشّيخ إسماعيل المجذوب وهو من رموز العلماء في حمص الأقرب إلى الفكرة السّلفيّة، وكان بينهما حبٌّ يتجاوز مجاملات أبناء المدارس المختلفة.

وهذا السّلوك لا يصدرُ إلّا على عقليّة تطمح إلى تجميع الصّفوف، وتتعالى على الانتماءات الضّيقة، وهو دروسٌ لطلّاب كلا التّوجهين أعمق وأبلغ من كثيرٍ من المحاضرات التي تُلقى عن وحدة الصّف وجمع الكلمة، وهو ينمّ عن نفسٍ كبيرةٍ فلا يفعل ذلك إلّا الكبار نفوسًا الكبار عقولًا الكبار طموحًا الكبار رسالةً.

كان الشّيخ عدنان السّقّا من أبرز الذين ألقَوا خطبًا ناريّةً تحرّض الشّارع على رفض هذا التّعديل الدّستوريّ

اندلعت معركة الدّستور عام 1973م إثر محاولة حافظ الأسد حذف مادةٍ رئيسة من دستور عام 1950م وهي المادّة الثّالثة ونصّها:

” المادة الثالثة:
‎1. دين رئيس الجمهورية الإسلام.
‎2. الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع”

وكان روّاد هذه المعركة العلماء في عدد من المدن السوريّة، وقد تنوّع حراكهم فيها بين إصدار البيانات والخطب المنبريّة وقيادة المظاهرات.

وفي حمص كان الشّيخ عدنان السّقّا من أبرز الذين ألقَوا خطبًا ناريّةً تحرّض الشّارع على رفض هذا التّعديل الدّستوريّ إلى جانب العديد من خطباء حمص آنذاك ومنهم؛ الشّيخ محمّد علي مشعل، والشّيخ محمود سويد، والشّيخ وصفي المسدّي، والشّيخ ممدوح جنيد، والشّيخ عبد الغفّار الدّروبي.

كما تقدّم الشّيخ عدنان السّقّا مع ثلّة من هؤلاء العلماء المظاهرات في حمص المطالبة برفض هذه التّعديلات التي كانوا يرون فيها اعتداء على الهويّة الإسلاميّة لسوريا وشعبها.

ومع بداية أحداث الثمانينات والصّراع بين حافظ الأسد وجماعة الإخوان المسلمين في سوريا واستفحال الظلم؛ كان الشّيخ عدنان السّقّا لسانًا ناطقًا بالحقّ معلنًا رفضه للظّلم، فلاحقه نظام حافظ الأسد وضيّق عليه ممّا اضطرّه للهجرة من سوريا فانتقل إلى جدّة ليعيش فيها داعيًا ومدرّسًا ومربيًّا إلى أواسط التّسعينات فعاد إلى حمص مع موجة عودة شريحة من العلماء المبعدين؛ فالتفّ النّاس حوله من جديد وغدا الاسم الأبرز والداعية الأشهر والمربّي الأكثر تلاميذًا في مدينة الحجارة السّود.

وعندما انطلقت الثّورة في سوريا في آذار من عام 2011م كان الشّيخ عدنان السّقّا هو الأسرع مبادرةً في علماء سوريا

عقب انطلاق الرّبيع العربي في تونس ومصر سارع الشّيخ عدنان السّقّا إلى جمع عددٍ من دعاة مدينة حمص ومنهم الشّيخ محمود الدّالاتي والشّيخ سهل جنيد وشكّل معهم فريقًا لتدارس الواقع وسيناريوهات المستقبل، واقترح عليهم أن يقوموا بزيارةٍ إلى مؤسّسات النّظام المدنيّة والأمنيّة بهدف إقناعهم بضرورة الإصلاح قبل وصول قطار الرّبيع العربي إلى محطّته السّوريّة، وفعلًا تمّ ذلك غير أنّهم جوبهوا من تلكم المؤسّسات ـ لا سيما رؤساء الأجهزة الأمنيّة ـ بنبرةٍ استعلائيّةٍ تدلّ على رفض النّصح والإصلاح مبرّرين ذلك بأنّ “سوريا غير” وأنّ “سوريا بلد مقاوم والشّعب ملتفّ حول قيادته المُقاوِمة”

فكان الشّيخ عدنان السّقّا في هذا الموقف مثالًا للعالم بعيد النّظر، السّاعي إلى الإصلاح، المهتمّ بشأن وطنه، الحادب على شعبه.

وعندما انطلقت الثّورة في سوريا في آذار من عام 2011م كان الشّيخ عدنان السّقّا هو الأسرع مبادرةً في علماء سوريا بطريقة مؤسّسية منظّمة حيثُ عقد اجتماعًا لعددٍ من علماء ودعاة وخطباء حمص في بيته يوم الخميس في السّابع من شهر نيسان “إبريل” من ذلك العام أي بعد أقلّ من ثلاثة أسابيع من اندلاع الثّورة واختار أن يكون توقيت الاجتماع بعد منتصف الليل حتّى لا يتسنّى لأجهزة الأمن تطويق الفكرة أو إجهاضها.

صاغ الشّيخ عدنان السّقا بيانًا باسم جمعيّة علماء حمص، وصياغته تدلّ على وعي سياسيّ عميق، وأصالةٍ في الموقف، ورجولةٍ في الطّرح، ورقيّ في الخطاب.

فالبيان توجّه إلى الرّئيس بشّار الأسد بستّة عشر مطلبًا كان أولها على الإطلاق “اعتبار المواطنة أساس الحقوق والواجبات وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص” كما طالبه بـ “نبذ العنف والطّائفيّة والتّمسّك بوحدة الأمّة” وكذلك نصّ البيان على ضرورة “رفع حالة الطّوارئ” و”كفّ يد الأجهزة الأمنيّة عن الاحتكاك بالنّاس وإهانتهم واستفزازهم” وغير ذلك من المطالبات التي تجسّد مطالب الجماهير بالحريّة والكرامة وصولًا إلى المطالبة بتعديل المادّة الثّامنة من الدّستور التي تنصّ على أنّ حزب البعث هو قائد الدّولة والمجتمع.

بالإضافة إلى ما تضمّنه البيان من وعيٍ عميق فإنّه يتضمّن جرأة غير مسبوقة وإقدامًا نادرًا مثيلُه لا سيما أن التّوقيع عليه سيكون بالأسماء الصريحة.

وهذا البيان الذي صاغه الشّيخ عدنان السّقّا ووقّع عليه في بيته هو وثيقةٌ للتّاريخ تدلّ على أنّ الشّيخ الذي بلغ السّبعين من عمره آنذاك كانت الثّورة تتدفّق في عروقه والمبادرة تتوثّب في سلوكه، جامعًا بين جرأة الشباب وإقدامهم وحصافة الشّيوخ وعمق الحكمة في رأيهم.

وبعد فترة وجيزة اضطرّ الشّيخ السّقّا لمغادرة سوريا بغية تجديد إقامته في السّعوديّة، وفور مغادرته عمّمت الأجهزة الأمنيّة اسمه على المنافذ الحدوديّة بوصفه مطلوبًا للاعتقال في خطوة تهدف لمنعه من العودة مما اضطرّه للانتقال إلى إسطنبول ليكون عنوانًا فاعلًا في بناء المؤسسات العلمائيّة والشرعيّة المحسوبة على الثّورة، ويمارس نشاطه الدّعويّ في مخيّمات اللاجئين وتجمّعات السّوريين المهجّرين.

كان الشّيخ السقّا شخصيّة تحملُ عقلًا مؤسّسيًّا، تعلي من شأن العمل الجماعي، منفتحة على التيّارات كلّها، يغلب الآخرين بلطفه الغامر، ويقاتلهم بالحبّ فيهزمهم في معركة ينتصر فيها الجميع.

تفقد المؤسّسة الدّينيّة السّوريّة بفقده أحد أهمّ عنوانيها التّجميعيّة، وشخصيّاتها التّوافقيّة، ورجالاتها المبادرين، ورموزها المؤثّرين، مما يجعل الخسارة كبيرةً، ويؤكّد أنّ رحيله ليسَ كأيّ رحيل.