حصاد حراك سبتمبر المصري

من المكاسب التي حققتها هذه الموجة أيضا الكسر النسبي لثنائية العسكر والإخوان، إذ ثبت أن المتظاهرين في غالبهم لا ينتمون لفصيل سياسي، وأن الشعب قادر على التحرك دون قيادة سياسية

 

مع انقضاء الأسبوع الأول للحراك الشعبي في مصر، والذي غلب عليه الطابع الريفي؛ يحق لنا أن نجري تقييما موضوعيا لهذا الحراك من حيث دوافعه، وتطوراته، والمكاسب أو الخسائر التي تسبب فيها، ومواقف الأطراف المختلفة منه، سواء عموم الشعب، أو السلطة وأجهزتها الأمنية، أو الإعلامية، أو القوى السياسية في الداخل أو الخارج، أو المجتمع الدولي.

لقد انطلق هذا الحراك يوم 20 سبتمبر2020 في الذكرى السنوية الأولى لانطلاقه قبل عام بدعوة من الفنان والمقاول محمد علي الخارج من حضن السلطة ومقاولاتها العسكرية، وعلى عكس التوقعات التي تنبأت بفشل الدعوات هذا العام أسوة بفشلها في يناير الماضي، وهو الفشل الذي دفع محمد علي وقتها للإعلان عن اعتزال السياسة، فإن الاستجابة هذا العام كانت أوسع انتشارا على المستوى الجغرافي، إذ شارك في هذا الحراك 150 نقطة في 16 محافظة، غلب عليها الطابع الريفي والشعبي (قرى وأحياء شعبية في المدن)، لم يكن الحراك منذ لحظاته الأولى مؤدلجا (أي محسوبا على تيار سياسي بعينه) وإن ظهر بوجه سياسي وليس فئوي منذ البداية، ظهر ذلك في الهتافات السياسية التي رفعها مطالبا برحيل السيسي مباشرة وليس بوقف هدم المباني مثلا وهو الأمر الذي مثّل القشة التي قصمت ظهر البعير، ودفع هؤلاء المتظاهرين لكسر حاجز الخوف والنزول للشوارع في مواجهة تهديدات السيسي باستخدام الجيش لإبادة المساكن في القرى والأحياء الشعبية المخالفة لقوانين البناء.

حراك بعد صمت:

لقد جاء هذا الحراك بعد فترة صمت استمرت 3 سنوات على الأقل، خلت فيها شوارع مصر من التظاهر (بعد توقف مظاهرات أنصار الشرعية ) بسبب القمع الشديد الذي مارسته أجهزة النظام، والذي وصل إلى حد القتل والتصفية الجسدية، والاعتقال والفصل،… إلخ.
 وبلغت موجة الحراك الأخيرة ذروتها يوم الجمعة 25 سبتمبر فيما أطلق عليه جمعة الغضب (استدعاء لمسمى جمعة الغضب في ثورة يناير) ولكنها تراجعت إلى حد التلاشي بعد ذلك، مع تصاعد الدعوات لجولة جديدة يوم الجمعة 2 أكتوبر، والتي ربما ستكون وجهتها ميدان التحرير وفقا لدعوات المقاول محمد علي، والتي قد تشهد تطورات أخرى قبل موعد الجمعة، وطيلة أيام الحراك التي استمرت 8 أيام وشكلت موجة شعبية مهمة فقد تميز الحراك بالانتشار في العديد من المحافظات وإن كان للصعيد نصيب الأسد (باعتباره الأكثر تضررا من سياسات السيسي)، لكن الأعداد كانت قليلة بشكل عام، ولم يصل الحراك إلى قلب القاهرة وعواصم المحافظات، والأهم أنه لم يصل إلى ميدان التحرير كما حدث العام الماضي، رغم أن الانتشار الجغرافي العام الماضي كان أقل بكثير عن هذا العام.

كان لافتا أن غالبية المشاركين في الموجة الأخيرة من حديثي السن (كثير منهم من الصبية) الذين لم يشاركوا أو يعايشوا ثورة 25 يناير2011، ومع ذلك فقد استدعوا الكثير من هتافاتها وشعاراتها، وجرت تظاهراتهم وسط قبول شعبي واسع، على عكس حالة التنمر بمظاهرات أنصار الشرعية عقب انقلاب الثالث من يوليو 2013 حيث كان الكثيرون يدخلون في مواجهات معها، وهذا القبول الشعبي للمظاهرات سببه هو المعاناة التي يعيشها الناس في ظل هذا الحكم، والتي وصلت حد التهديد بهدم منازلهم على رؤوسهم باستخدام الجيش، ناهيك عن الارتفاعات المتتالية للأسعار مع ثبات الأجور والدخول وتوقف الكثير من الأعمال بسبب قرارات النظام، ومنها قرارات وقف البناء الذي تضررت منه فئات عديدة، ولذا فإن الشارع الغاضب أصبح يمثل حاضنة شعبية لأي حراك أو تظاهر ضد النظام.

كان لافتا أيضا التراخي الأمني في التعامل مع المتظاهرين، والاقتصار على قنابل الغاز فقط في بعض الأحيان، وكان لافتا جرأة المتظاهرين في بعض المناطق على حرق سيارات الشرطة وحرق صور السيسي واستراحة محافظ اسوان، وبدا السلوك الأمني غريبا ومختلفا عما شهدناه من قبل، ويبدو أن هذه الموجة الجديدة فاجأت النظام وأجهزة أمنه التي لم تكن مستعدة لها، ولم تكن تتوقع أماكن انطلاقها، والتي ركزت تعزيزاتها الأمنية في العاصمة والميادين الكبرى في المحافظات، ولم يكن بإمكانها نشر قواتها عبر هذا الطيف الواسع من القرى والأحياء الشعبية، وبشكل عام يمكن القول أن الأمر لم يكن محض تسامح أمني مع المظاهرات وإنما عجز عن التنبؤ بوقوعها وبأماكن انتشارها، كما أن غياب القوى الإسلامية عن التظاهرات تسببت في قدر من التراخي الأمني، ولكن يبدو أن الشرطة انحنت قليلا امام الموجة لتمريرها ومن ثم عادت للانقضاض على بعض المناطق الأكثر سخونة مثل الكداية ودهشور والبليدة والأقصر، وهو ما وثقته بعض المقاطع المصورة لاحقا، كما أنها اعتقلت أكثر من 400 مواطن وفقا لتقارير حقوقية، ولشهادات محامين يتابعون التحقيقات مع المتهمين.

كسر حاجز الخوف:

لقد كانت الثمرة الكبرى لهذه الموجة هي كسر حاجز الخوف الذي فرضه النظام خلال السنوات الماضية، والذي جعل التفكير في التظاهر مساويا للتفكير في الانتحار، كما أن هذه الموجة فتحت باب الأمل مجددا أمام المصريين، وقدرتهم على الفعل الإيجابي الذي يدافعون من خلاله عن أنفسهم، وعن حقهم في الحياة والمسكن والحرية ولقمة العيش الكريمة، وحقهم في التعبير عن رأيهم، وإضافة إلى ذلك فإن هذه الموجة حققت مكاسب عملية مثل إجبار النظام على التراجع ولو جزئيا عن قرارات الهدم والإزالة للمساكن المخالفة لقانون البناء، وإطالة مهلة التصالح حتى نهاية أكتوبر، ودفع حزب السلطة (مستقبل وطن) لتحمل الغرامات عن المخالفين بما قيمته مائة مليون جنيه، وتعهد السيسي شخصيا بتوفير مسكن لائق للأسر المتضررة، ناهيك عن خطابه الناعم عقب المظاهرات على العكس من تهديداته الغاشمة من قبل باستخدام الجيش.

من المكاسب التي حققتها هذه الموجة أيضا الكسر النسبي لثنائية العسكر والإخوان، إذ ثبت أن المتظاهرين في غالبهم لا ينتمون لفصيل سياسي، وأن الشعب قادر على التحرك دون قيادة سياسية (وإن كان وجود هذه القيادة هو الضامن لاستمرار الحراك، وتحركه في المسارات الصحيحة)، ولأن النظام أدرك سريعا خطورة الأمر فقد عاد لتصدير المواجهة باعتبارها مع الإخوان، فزعم أن الجماعة هي من تقف خلف هذه المظاهرات بشكل مباشر وغير مباشر، وشرع في تنفيذ موجة قمع جديدة بحق منتسبيها وأنصارها، فأصدرت محكمة النقض حكما جديدا بتأييد إعدام ستة مواطنين من كرداسة التي كانت إحدى نقاط الحراك الأخيرة، كما أصدرت إحدى محاكمه حكما بشطب عضوية بعض كبار المحامين من عضوية نقابة المحامين (منهم صبحي صالح وعصام سلطان وعبد المنعم عبد المقصود) وقررت إحدى المحاكم أيضا تنفيذ المصادرة لأموال وممتلكات العشرات من  قادة وأبناء الجماعة التي تم التحفظ عليها من قبل، وكلها إجراءات تستهدف بث التخويف من ناحية وإعادة تصدير الصراع بأنه مع الإخوان من ناحية أخرى!!

ومن المكاسب التي حققتها الموجة الأخيرة أيضا التفاعل بين معارضي ومناهضي النظام في الداخل والخارج بعد نجاح النظام في تشويه صورة معارضي الخارج أمام قطاعات كبيرة من الشعب، حيث جاء الحراك الأخير كاستجابة مباشرة لدعوات صدرت من الخارج ليبدد ما صنعه النظام، وقد كان واضحا أن الحراك يردد الشعارات المناهضة للنظام التي تمت صياغتها وتسويقها عبر الفضائيات المصرية في الخارج، وكذا عبر حسابات التواصل الاجتماعي للمعارضين المقيمين في الخارج، وقد أثبتت هذه الموجة أن الشعب المصري أصبح جاهزا للتفاعل مع أي دعوات أخرى من الخارج يثق في جدية أصحابها ومصداقيتهم، وبالتالي فقد وضع القوى والرموز المناهضة للنظام في الخارج أمام تحد كبير عليها أن تثبت أنها قادرة على اجتيازه، لقد أحسنت هذه القوى والرموز المقيمة في الخارج -والتي لا يشك أحد في مدى مناهضتها للنظام، ومدى دعمها لأي حراك ضده-، بعدم دخولها المباشر على خط الحراك الحالي لتفويت الفرصة على النظام، ولكن هذه القوى مطالبة اليوم وأكثر من أي وقت مضى بتوحيد صفوفها والتهيؤ لقيادة الشعب قيادة جماعية بدلا من القيادات الفردية التي تصيب حينا وتخطئ أحيانا في الوضع الحالي.

ونجحت هذه الموجة في تحريك بعض القوى السياسية في الداخل، حيث أعلن حزبا الدستور(ليبرالي) والتحالف الشعبي (يساري) وكذا حركة الاشتراكيين الثوريين دعمهم لمطالب المتظاهرين الغاضبين، وهذا موقف متقدم لتلك الكيانات التي تعمل من داخل مصر وسط أجواء قمع غير مسبوقة تعرضها للحل والتصفية بزعم دعمها للإرهاب، وفي المقابل تقاعست أحزاب وحركات أخرى عن إعلان أي دعم خوفا من بطش النظام ومن هؤلاء القوى الناصرية ممثلة في التيار الشعبي وتيار الكرامة والحزب الناصري، وكذا بقية الأحزاب الليبرالية مثل الوفد والمصري الديمقراطي الاجتماعي والمصريين الأحرار وحركة 6 أبريل.

ميدان التحرير:

وفي مقابل هذه المكاسب فإن الموجة الأخيرة لم تستطع الوصول إلى الأماكن الحرجة للنظام مثل ميدان التحرير وغيره من الميادين الكبرى، ولم تستطع اجتذاب اهتمام سياسي وإعلامي دولي على عكس ما حدث خلال موجة العام الماضي، باستثناء موقف وزارة الخارجية الألمانية وتصريح فضفاض عن رفض قمع حرية التعبير في أي بلد للمتحدث باسم الأمم المتحدة، كما أنها لم تستطع الاستمرار لأكثر من أسبوع، ويتوقف الأمر على نجاح دعوات التظاهر يوم الجمعة 2 أكتوبر لإثبات مدى قدرة الحراك على الاستمرارية، والتطور، وصولا إلى حالة ثورية حقيقية قادرة على الإطاحة بالنظام.

لا يتوقع عاقل أن يحسم الشعب معركته مع نظام حكم عسكري يتملك كل وسائل القوة في جولة أو جولتين، ولكن تحقيق مكاسب ولو جزئية في جولة يشجع الشعب على الدخول في جولات جديدة، ويفتح الباب لتنازلات جديدة من النظام المتغطرس، وحتى إذا نجح النظام في قمع دعوات الجمعة المقبلة فإن هذا لن يكون نهاية المطاف للحراك الشعبي الذي سيتحين فرصا جديدة للانطلاق، فنحن في معركة تحسم في النهاية بالنقاط وليس بالضربة القاضية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه