انتفاضة الأطراف!

انتفاضة الأطراف

 

عندما جن الليل بعد يوم حافل في يوم 25 من يناير 2011، وكنا لا نزال في ميدان التحرير، جاء ثلاثة من الزملاء الصحفيين المقربين من دوائر السلطة، ومن لجنة السياسات على وجه التحديد، وقالوا إن سبب مجيئهم هو الوقوف على حدود ما يحدث، وسألهم زميل من المتظاهرين إن كانوا سينقلون ما حدث، فأجابوا بالإيجاب، فليست لهم مصلحة في اخفائه!

عندما حضروا كان التعب قد بلغ بي مبلغه، فأخذت جريدة “الأهرام المسائي” من أحد الزملاء الشبان الذين يعملون بها، وافترشتها على الأرض، وقد ارتج عليه وأنا أفعل هذا. كان رئيس تحريره ضمن الثلاثي في طريقه إلينا. فقد كنا مجموعة من الصحفيين معاً، وكان مجيئهم إلينا باعتبارهم لا يعرفون غيرنا في الميدان، وقلت مازحاً للزميل الشاب: لو أن رئيسك انتبه إلى أننى أجلس على صحيفته التي أخذتها منك، فسوف أقول له لقد اتفقنا معا على أن هذا هو مكانها الطبيعي، مفروشة على الأرض، لكنه لم ينتبه لشيء من هذا، فربما كان المرحوم طارق حسن رئيس تحرير “الأهرام المسائي” مشغولاً بما هو أهم، وهو الحفاظ على نظام هو أحد أركانه في مجال الإعلام، ثم إنه ورغم الخلاف السياسي، فإن صلة الزمالة والانتماء للمهنة كانت في هذا التوقيت مقدرة من جميع الأطراف.

تذكرت ذلك، وأنا أشاهد المظاهرات التي اشتعلت في الأطراف يوم أمس، وسألت نفسي هل يوجد لدى السيسي من يهتم بنقل الصورة وتوضيحها له؟

لا أعرف ماذا نقل الزملاء الثلاثة في الليلة إياها، لكن حتى لو كانوا أمناء في النقل، فإنهم سيصطدمون حتماً بشخصية مبارك، الذي كان بطيئا في التصرف، ويخشى من تقديم أي تنازل، وشعاره في الحكم: ” لا أحد يلوي ذراعي”، وفي هذه الليلة وعندما جلست على “الأهرام المسائي” قلت لو انتهى هذا المشهد بإقالة حبيب العادلي، لانفض السامر، ولكان نصراً مهماً، لكن مبارك الذي كان يقول إنه حاصل على الدكتوراه في العناد، استجاب لهذا الطلب عندما ارتفع سقف المطالب، ثم بدأت القرارات متأخرة عن موعدها، وبعد أن آمن الناس بضرورة أن يرحل هو لا سيما بعد موقعة الجمل!

اسقاط النظام:

لا يعني هذا أن مطلب “اسقاط النظام” لم يرتفع منذ اليوم الأول، ولكن كانت الجماهير لديها الاستعداد أمام حكم تراه قوياً، أن تقبل بمجرد اقالة الوزير، وفي اليوم التالي كان يمكن أن ينتهي حراكها بحل البرلمان وتعيين نائباً له، أو إعادة تشكيل الحكومة، وهي كلها قرارات اتخذت لكن في الوقت الضائع!

ومهما يكن الأمر، فإنني لا أعتقد أن نظام السيسي يضم مثل هؤلاء الثلاثة الذين كان يعنيهم بقاء النظام، فجاءوا لينقلوا الصورة، وقد كان لديهم حس سياسي يفتقده الذين من حول السيسي فتحولوا – لافتقاده – لمجرد أبواق، فواحد منهم كان سبق له الانتماء للإخوان، واثنين منهما لهم سابقة انتماء لليسار، ومن حول السيسي هم بلا خبرة سياسية أو خلفية أيديولوجية، لذا فلن يجدوا مصالحهم المرتبطة بوجوده، تحتم أن يقدم تنازلات ليبقى فيبقوا هم، ولكن سيجدون أن دورهم في الهتاف له: إلى الأمام يا روميل!.. وربما لن تخرج رسالتهم عن التأكيد على أن الاخوان وراء المظاهرات، ظنا منهم أن هذه البضاعة صالحة إلى الآن للاستهلاك المحلي، أو أن يفعلوا ما فعل عمرو أديب، وقد ارتبط مصيره بمصير السيسي وجوداً وعدماً، فهتف: إذا سقط السيسي فمن يحكم؟!

وهي حالة من البلاهة توحي كما لو كان الشعب، أو فريق منه، يرى أن السيسي هو من يحمي البلاد من الفوضى، أو الدولة من الانهيار، كما يردد هو دائماً، ولا يرى القوم أن الناس في بلدي يرون أن أي حاكم آخر هو أفضل من السيسي، وأن أي نظام جاء بإرادة الشعب سيضع الناس في اعتباره، وأن الجماهير لا يوجد لديها ما تخسره، ولا يمكن الاعتقاد أنها ستقبل ما يقع عليها من بلاء وما يحيط بها من أزمات من أجل أن تحافظ على المكتسبات التي حصل عليها مجموعة من الإعلاميين، أحدهم هو عمرو أديب المذيع الأعلى راتباً في العالم؟!

لكن المشكلة تكمن في أن الخلفية العسكرية بالانتماء أو بالانتحال، هي التي تحكم مصر، ولا يوجد في دوائر الحكم من ينصح السيسي، أو يسعى للوقوف على ما يجري وتقديم النصح للسلطة من أجل أن تستمر لتستمر المصالح، لكن كل من حول السيسي يدورون في فلكه باعتباره هو وحده يملك القدرة على التصرف، فعززوا لديه الشعور بأنه يدير معسكراً؛ الكلمة فيه للرتبة الأعلى وليست دولة يدلي كل انسان فيها بدلوه، فلا يوجد على مر التاريخ ما يُعرف بالرئيس المعصوم!

التنازلات:

والحقيقة، أن السيسي الذي لن يقدم تنازلات مهمة للشعب، وسيتصرف على طريقة المخلوع “خليهم يتسلوا” لا يوجد لديه ما يقدمه للناس، فقد أُغلق مجال المناورة!

لقد توقف الرز القادم من الخليج، والبلد بطنه مفتوح، بمشروعات مجنونة، طرق وكباري وعاصمة إدارية جديدة، وليس لديه مستشارين ينصحونه بشيء في مجال الاقتصاد، حيث لا انجاز يحدث في هذا المجال والوضع السياسي معقد وينذر بما فوق التصور في أي وقت، فكان اللجوء إلى فرض المزيد من الرسوم والضرائب ورفع أسعار الخدمات، وهو ما كان سبباً في  توسيع دائرة الغضب لتشمل الوطن بكل فئاته، بما في ذلك طبقة رجال الأعمال، بعد أن وضع الجيش يده على كل الأنشطة ليتحقق وعد السيسي في السابق عندما اجتمع برجال الأعمال في سنة 2014، بأن ما يفيض عن الجيش سيكون من نصيب دولة الإمارات، لتأتي شركة المقاولون العرب في المرتبة الثالثة فإن بقي شيء فلهم!

وفي مجال السياسة، فإن لديه تصوراً هلامياً بأن مبارك لم يسقط إلا بتوسيعه للهامش الديمقراطي، وهذا ليس صحيحاً فانتخابات سنة 2010 حيث نسبة النجاح مائة في المائة لصالح الحزب الوطني، كانت السبب في شعور الناس باليأس وأنه لا حل إلا بإسقاط مبارك نفسه، ثم إن الاحتفان السياسي تضخم بالحديث عن التوريث!

إن هذه النظرية التي يعتمدها السيسي للحكم، سقطت ليلة أمس، إنها نجحت في قمع القوى السياسية، فاستكانت وهرولت لتقبل الفتات من حزب مستقبل وطن، لكن الجماهير خرجت في الأطراف، في أطفيح، وكفر الدوار، والمحلة، وطهطا، وأسوان، والإسكندرية، والمعادي، والبساتين، وغيرها تتحدى آلة القمع، وتفاجئ الرأي العام بانتفاضة أبهرت الجميع، لأنها لم تعبأ بهذه الألة المجنونة والتهديد بإنزال الجيش للإبادة، ومصدر قوتها إنها من خارج السياسة ومن خارج التنظيمات التقليدية، التي تكون دائماً محدودة الحركة والتصرف!

هذا خلق جديد:

إنهم “خلق جديد”، وهو عنوان مقال كتبته بعد يوم 25 يناير، إذ وجدتني أتحرك في مسيرة ضخمة، لا أعرف فيها أحداً، ولم يسبق أن شاهدت أياً من المشاركين فيها في أي فعالية من الفعاليات التي بدأت في الانطلاق منذ عام 2004، وهي المسيرة التي انطلقت من أمام دار القضاء العالي إلى ميدان العتبة ومنه إلى باب الخلق ثم إلى عابدين قبل أن تصل لميدان التحرير!

هذا “الخلق الجديد” شاهدته مرة أخرى في حراك الأطراف أمس 20 سبتمبر، ولا يصلح هنا الانكار، أو التهوين لعدد الذين شاركوا فيها، فقد أعطت درساً مهما؛ فليس شرطا للثورة التجمع في الميادين المعروفة التي تحاصرها الشرطة.

ثم إنها بدت ليست كثورة يناير أو حراك رافضي الانقلاب بعد ذلك، فقد واجهت أهدافاً للسلطة تعاملت معها، وطاردت مصفحات الشرطة، ثم إن جل المشاركين فيها من الشباب سريع الحركة، القادر على الكر والفر!

وقبل هذا وبعده إنهم تحركوا في مناطقهم بدون أي مواجهة تُذكر من جانب من ينافقون النظام، فلا أحد مستعد للدفاع عن النظام الحاكم، كما كان يحدث في مظاهرات الاخوان، من قبل من يوصفون بالمواطنين الشرفاء.

والمعنى هو نهاية الظهير الشعبي للسلطة ولو في حده الأدنى، ثم إن المتظاهرين لن يقفوا مكتوفي الأيدي في مواجهة أي اعتداء عليهم!

لقد كان اللجوء من قبل الاخوان للمناطق الشعبية، وما سمي بـ “بمظاهرات الحارة المزنوقة” دليل ضعف وانحسار بعد مظاهرات عارمة كانت تسد عين الشمس في الشوارع العامة، لكن هذه البداية بالنسبة للحراك الجديد، تؤكد على الابداع وحتى لا يكونوا صيداً ثميناً للسلطة قبل أن يشتد عود الحراك كما حدث في سبتمبر من العام الماضي!

ويُخطئ الحاكم العسكري إن اعتبره يوما وراح لحال سبيله، فهذه البداية الحقيقية لمتاعبه!

لقد كسرت المظاهرات على قلة أعداد المشاركين فيها حاجز الخوف.. فماذا بقى للسيسي؟!

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه