خاشقجي فكرة لن تموت

حين اغتالت يد الغدر السعودية الصحفي والمفكر جمال خاشقجي يوم 2 أكتوبر/ تشرين أول  من العام قبل الماضي (2018) توهمت أنها بذلك تخلصت من أحد كوابيسها المرعبة الذي يقض مضاجعها بدعواته الإصلاحية لنظام حكمها المتكلس، وبنشره لقيم الديمقراطية وسط صحراء الاستبداد.

وحين أصدر القضاء السعودي (الشكلي) حكمه النهائي يوم السابع من سبتمبر/ أيلول الجاري في جريمة القتل، توهم النظام السعودي أنه بذلك أسدل الستار على المسار القضائي لتلك الجريمة، التي لم تنته فصولا، وسيفاجأ هذا النظام بدعوى أو دعوات قضائية جديدة في أماكن مختلفة لا وصاية له عليها، وحتما ستظهر تلك المحاكمات الشفافة المسؤول الحقيقي عن قتل جمال والتمثيل بجثته، وستقرر العقاب المناسب له، ولن يستطيع هذا المجرم أو أولئك المجرمون الحقيقيون الإفلات من العدالة مهما تحصنوا اليوم بمناصب سياسية أو أمنية.

يوم أمس الثلاثاء (15 سبتمبر/ أيلول) دعا العديدُ من الدول الكبرى خلال اجتماع مجلس حقوق الإنسان الدولي لتسليم قتلة خاشقجي لعدالة حقيقية، ومع اقتراب الذكرى الثانية لرحيله سيظهر كابوسه مجددا خلال أيام قليلة في صورة مؤسسة لطالما حلم بتأسيسيها في حياته، وهي منظمة DAWN (منظمة الديمقراطية للعالم العربي وشمال أفريقيا) المختصة بدعم الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان في المنطقة العربية، وسيكون ظهور هذه المنظمة تجسيدا حيا لحلم جمال الذي عمل عليه في حياته لكنه لم ير النور إلا بعد وفاته، وستواصل هذه المنظمة التي تتولى إدارتها التنفيذية الحقوقية الدولية البارزة سارة ليا واتسون التبشير بحلم الحرية والديمقراطية الذي حمله جمال لوطنه الصغير(السعودية) ووطنه الأكبر(الوطن العربي).

من قريب:

اقترابي المباشر من جمال خاشقجي رحمه الله تم عقب الانقلاب العسكري في مصر (3 يوليو/تموز 2013) حيث التقيته مرات عدة في الدوحة وإسطنبول، وجرت بيننا حوارات حول الربيع العربي والثورات المضادة التي شاركت فيها حكومته بشكل كبير، وكان لي السبق في أولى فعاليات مجموعتنا (مؤتمر أصدقاء خاشقجي) لاقتراح تسمية الشارع الذي تقع فيه القنصلية السعودية في إسطنبول باسمه، وإقامة نصب تذكاري له في الحديقة المقابلة لها وهو ما تم بالفعل، لم يكن جمال من قبل مناضلا سياسيا، أو ناشطا حقوقيا، بل ظل لفترة طويلة جزءا من النظام السعودي الحاكم، مستشارا لسفارته في واشنطن، ومستشارا في العديد من الملفات السياسية الأخرى، كان إصلاحيا في حدود ما تسمح به النظم والقوانين والبيئة السعودية والعائلة الحاكمة، لكنه استنفذ مخزون النصح الهادئ من داخل النظام الذي لم يستجب له أو لغيره من الناصحين، فعلا صوت جمال خاصة مع انطلاق ثورات الربيع العربي، التي لم يخف الفقيد ترحيبه بها في مملكة تعاديها، وتخشى انتقال عدواها، ولذا كان الخصام بينه وبين النظام السعودي الذي انفجر مع الإطاحة بأول رئيس مدني لمصر عقب ثورة يناير 2011 الدكتور محمد مرسي، والذي كان الانقلاب عليه في 3 يوليو تموز  2013 هو أكبر ضربة وجهت للربيع العربي حتى الآن.

النجاة بالنفس:

مع تمدد الثورات المضادة خرج خاشقجي ناجيا بنفسه إلى الولايات المتحدة حيث كان يمتلك إقامة قانونية، ومنها بدأ رحلاته واتصالاته للعمل مع نشطاء آخرين لمواجهة تلك الهجمة على الديمقراطية الوليدة في المنطقة العربية، وشعر النظام السعودي بخطورة الرجل الذي يعرف الكثير من اسرار الحكم السعودي بحكم التصاقه السابق به، فكان قرار التخلص منه إلى الأبد حتى لا يزعج ولي العهد الجديد (محمد بن سلمان) القادم من الخلف لتولي الحكم متجاوزا أصحاب الحق وفقا لتقاليد العائلة الحاكمة. كان القرار متهورا كمن أصدره، وبشعا في تنفيذه كمن نفذه، وستظل اللحظات الأخيرة لجمال بين يدي قاتليه صارخا في وجوههم “إني أختنق” باقية في وجدان كل حر، تتردد اصداؤها في كل مكان، لقد كنت هناك خارج القنصلية السعودية بعد يومين من دخول خاشقجي إليها، ذهبت  للتضامن مع خطيبته خديجة جنكيز التي كانت ترابط أمام القنصلية تنتظر خروجه، لم نكن نسمع ونحن خارج القنصلية صرخات جمال بين يدي القتلة، كان لا يزال يحدونا الأمل أن يكون الرجل حيا، وإن أسررت لخديجة في ذلك الوقت أنه ربما تم تهريبه عبر حقيبة دبلوماسية إلى السعودية، كنت أستحضر ساعتها العديد من العمليات المماثلة لأجهزة المخابرات السعودية وغير السعودية، ولم نكن نتصور أن البشاعة وصلت إلى حد القتل والتمثيل بالجثة ثم إخفائها وتذويبها حتى لا يبقى لها أثر، ولكن شاء الله فضح جريمتهم، ومعرفة الجناة الحقيقيين وعلى رأسهم الأمير محمد بن سلمان صاحب قرار التصفية، ومعه كبار مساعديه في اتخاذ هذا القرار وهم سعود القحطاني وأحمد العسيري ثم بقية فرقة تنفيذ الجريمة في إسطنبول.

وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية التي تدعي المملكة تطبيقها فإن القتل هو العقوبة المفترضة لهؤلاء القتلة ومحرضيهم، لكن القضاء السعودي الذي استخدم لإنقاذ الجاني الحقيقي (ابن سلمان الذي أكد تقرير أممي لمقررة الأمم المتحدة للقتل خارج نطاق القانون أغنيس كالامارد تورطه في الجريمة) قدم للرأي العام كباش فداء حيث  شمل حكمه الصادر في 23 ديسمبر/كانون اول من العام الماضي الإعدام لخمسة من المتهمين المنفذين للجريمة، وتاليا تم استخدام (سيف المعز وذهبه) لإجبار أسرة خاشقجي للعفو عن القتلة، وكان ذلك الخطوة اللازمة لتخفيف حكم الإعدام عن هؤلاء القتلة في الحكم النهائي الذي صدر مطلع هذا الشهر.

الشبح المرعب:

بالرغم من كل ما فعلته السلطات السعودية لطمس القضية، ودفن أفكار جمال خاشقجي معها، إلا أنه سيظل شبحا مرعبا لها، ولغيرها من المستبدين، عبر المنظمة التي تحمل أفكاره حول الحريات والديمقراطية، فما مات من ترك خلفه أثرا يفيد الناس ويذكرهم به دوما، وكما ورد في الحديث النبوي الشريف “إذا مات ابن أدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه