القضية ليست اعتقال محمود عزت

أعلنت وزارة الداخلية المصرية اعتقال محمود عزت القائم بأعمال مرشد جماعة الإخوان المسلمين، صباح الجمعة 28 أغسطس 2020، في أحد الأحياء الجديدة الراقية بالقاهرة، بعد فترة اختفاء طويلة، تجاوزت سبع سنوات.

وليس أمامنا غير بيان الداخلية، والرواية التي يسردها بخصوص عملية الاعتقال، وكيف تمت، وملابساتها، فلا توجد مصادر معلومات أخرى، أو إعلام مستقل يمكن من خلاله معرفة تفاصيل جديدة، أو إضافات لرواية الداخلية، أو سردية مختلفة.

عزت يبلغ من العمر (76) عاماً، وهو طبيب، وما أكثر الأطباء داخل جماعة الإخوان، وما أكثر أطبائهم المسجونين، أو المختبئين، أو الفارين للخارج، فالعمل السياسي العبثي، ولعبة الصراع على السلطة التي يفشلون فيها دوماً، حولتهم من ملائكة رحمة إلى شياطين تتم ملاحقتهم أمنياً، والتوجس منهم اجتماعياً.

صدر حكمان غيابيان بالإعدام، وآخران بالمؤبد ضد محمود عزت، وهو يُحاكم في قضايا أخرى، وبعد القبض عليه سوف تُعاد محاكمته حضورياً في كل القضايا الغيابية المدان فيها، وما لم تحدث معجزة سياسية تنقذه، وغيره من القادة والكوادر الذين يقبعون في الزنازين منذ سنوات، فإن رحلة حياته ستنتهي في السجن، كما سبقه آخرون إلى هذا المصير المظلم، وأحدثهم الطبيب عصام العريان، وأهمهم جميعاً الرئيس محمد مرسي، الذي لم يمكث في الحكم سوى عاماً واحداً فقط، وانتقل من القصر، إلى السجن، ثم القبر.

اليوم يجري الحديث عن عزت باعتباره إرهابياً كبيراً خطيراً، وصيداً ثميناً، وكنزاً هائلاً من المعلومات عن جماعة الإخوان داخل مصر، والفارين بالخارج، والتنظيم الدولي.

 لا أحد يتحدث عنه كطبيب، وتخفيفه آلام المرضى وإنجازاته في مجال الصحة والعلاج، ومن الأصل لا يُعرف تاريخه في الطب، إنما التاريخ الذي يتم تداوله هو عضويته في الجماعة، وصعوده فيها، وتوليه قيادتها بالإنابة بعد اعتقال المرشد محمد بديع، ونائبه الرجل القوي خيرت الشاطر.

 كما يجري الحديث عنه في بيان الداخلية كمسؤول عن جرائم اغتيالات عديدة جرت بعد عزل الرئيس محمد مرسي عام 2013، وتم فيها اغتيال النائب العام هشام بركات، وضباط، وتنفيذ عمليات تفجير.

كل ما سبق ليس القضية التي يجب الاهتمام بها، من وجهة نظري، لا الاعتقال والاتهامات والمحاكمات المتعلقة بالدكتور محمود عزت، ولا اعتقال من لايزال مختبئاً من الكوادر والأعضاء، ولا استلام مطلوبين من الخارج، ولا أولئك القابعين في السجون من القادة الكبار إلى الأعضاء والأنصار الصغار.

القضية:

إنما صلب القضية أمام الإخوان أمس واليوم، وغداً هى: كيف لجماعة قديمة وكبيرة ومنظمة ومتغلغلة في ربوع مصر وخارجها، والمنتمون إليها لهم مراكز علمية وأكاديمية ووظيفية ومهنية وحرفية مرموقة، أن يصل بها الحال لتكون جماعة محظورة ومنبوذة وإرهابية، ويتحول الأعضاء إلى متهمين، ومجرمين، وإرهابيين، وملاحقين، ومُهانين، ومن ورائهم عائلات وأهالي وأقارب تطالهم الإهانات، وتصوب نحوهم النظرات المسيئة في المجتمع؟

القضية هي بشأن جماعة تنال شرعية ثورية، وسياسية، ودستورية وقانونية، عبر حزبها الحرية والعدالة، بعد ثورة يناير، بجانب شرعيتها الشعبية والواقعية مما لم يحدث مثله طوال تاريخها، وتحوز أغلبية البرلمان المنتخب في 2011، وتصل للرئاسة في 2012، وهى أرفع المواقع في النظام السياسي المصري، ويفتح الإعلام أبوابه لقادتها وشخصياتها البارزة بعد أن كانت مُوصدة في وجوههم، وكان مُحرماً عليهم الظهور على الصفحات والشاشات، إلا إذا كانت الأخبار ترتبط باتهامات وقضايا وسجون يدخلونها.

والمنتمون إليها صاروا يتحركون في البلاد وخارجها كما يشاؤون، ويعيشون ويعملون وينامون في أمان كانوا محرومين منه طويلاً، مثلهم مثل أي مواطنين طبيعيين، كما سعى الجميع إليهم، يتقرب منهم، ويخطب ودهم، دون إخفاء أو سرية منهم، ونتذكر أول اجتماع علني لمكتب الإرشاد في مقر الجماعة في المقطم وقد تم رفع يافطة كبيرة عليه باسم الجماعة وشعاراتها، وكان هذا حدثاً لافتاً.

كما أدى قادة الجيش التحية للرئيس محمد مرسي المنتمي للجماعة، وكان يجتمع بهم، ويجلسون معه، والدولة كلها تخضع لسلطته، ويسافر إلى الخارج في زيارات رسمية، ويستقبل ضيوفاً رسميين عرباً وأجانب، ويشارك في مؤتمرات وقمم ولقاءات باسم مصر في العالم، وأعدت الجماعة دستوراً جدلياً، وتمت الموافقة الشعبية عليه، رغم الاحتجاجات العنيفة ضده.

كل هذا وغيره جرى في أقل من عامين ونصف العام عقب ثورة يناير2011، وهو تقدم كبير، وإنجاز كان يستحيل تصور حدوثه يوماً لهذه الجماعة تحديداً التي دخلت في معارك وأزمات وصراعات مريرة ومكلفة مع السلطات الحاكمة في مرحلة الملكية، وفي كل عهود مرحلة الجمهورية، وتعرضت لضربات من كل الأنظمة كما لو كانت أدمنت النكبات التي تبقيها على قيد الحياة.

كيف للجماعة الأقدم والأطوال زمناً والتي يبلغ عمرها 88 عاماً أن تصل سريعاً إلى هذا المصير البائس الكارثي اللاعقلاني؟

هل صُنعت الجماعة على أيدي من وضعوا بذرتها، وتعهدوها بالرعاية، لكي تكون نكبة على من ينتمي إليها، أو يقترب منها، أو يتعاطف معها، أو يتصور أنها بديل أفضل لأنظمة الحكم المختلفة، كما اعتقد في ذلك كثيرون بعد ثورة يناير، فاتجهوا للتعاطف معها، ومنحوها أصواتهم، ثم خذلتهم بإدارة سيئة، وسياسية بليدة، وبالتالي تتحمل نصيباً كبيراً في انتكاسة يناير؟

استفادة الأنظمة من الجماعة:

 ومن المؤسف أن تستفيد كل الأنظمة من وجودها وأزماتها وصراعاتها حيث تحولها إلى فزاعة دائمة للتخويف من الانخراط في الشأن العام، وذريعة لتعطيل الإصلاح والديمقراطية، وتدعيم الاستبداد.

لست استئصالياً، ولهذا لن أقول يجب إزالة الجماعة، إنما يجب على كل من يرتبط بعلاقة قريبة أو بعيدة معها التفكير في تجربتها بعد يناير، وهى في مرحلة الصعود والحكم، ثم وهى في مرحلة الخروج من الحكم واشتداد رحى المواجهة والصراع مع سلطة الحكم الحالية التي أزاحتها وحلت محلها، ومراجعة نفسه ومسيرته ومصيره فيها أو معها، أو بمتابعتها وتأملها، ويقرر هل هناك فوائد عادت عليه، أو على المجتمع، أو على التغيير المطلوب طالما الجماعة تصر على بقاء عقلها الفكري والسياسي بتصلبه دون مراجعة وإعادة تجديد للأفكار والأدبيات والبرامج والمسارات والمواقف والتوجهات.

ليت الجماعة تراجع نفسها جذرياً، أو تقرر الاعتزال كلياً، أو لفترة من الزمن، المهم أن تجد حلاً لنفسها أولاً، فهي في مأزق حقيقي، فالسجون تتحول إلى مقبرة جماعية، والأزمة العنيفة غير المسبوقة التي تعيشها منذ سنوات لا تقتصر عليها وحدها، بل تطال بالأذى كثيرين، سواء من لا يزال يتمسك بالارتباط بها، أو أناس عاديين، لكن لهم رأي في نهج الحكم والإدارة والسياسات والأولويات والحياة بكل مصاعبها، فالأخونة لم تعد فكرة أو موقف سياسي أو أيدلوجيا، إنما تهمة لا يرضاها أي شخص لنفسه، حيث تقوده إلى التهلكة، والأذى يمتد ليصيب فكرة الصوت المختلف والمعارضة حتى لو كانت هادئة ووديعة.

مسار الإخوان المستمر منذ سبع سنوات هو تيه في صحراء بلا ملامح، أو غوص في رمال متحركة، أو انتحار ذاتي.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه