الأزهر إذ يدافع عن استقلاله

الإدانة للدماء لم تقتصر على مجزرة رابعة بل سبقها إدانتان لمذبحتي الحرس الجمهوري والمنصة، وكان بيان شيخ الأزهر عقب مذبحة الحرس الجمهوري (الذي تلاه بنفسه أيضا) قويا بمقاييس وقته.

 

من بين الهيئات المستقلة التي نص عليها الدستور المصري سواء في نصه الأصلي (2012) أو المعدل (2014) أو المعدل بشرطة (2018) ظهر الأزهر وحيدا محافظا على استقلاليته الدستورية، بينما ضربت السلطة استقلالية باقي الهيئات مثل: الجهاز المركزي للمحاسبات الذي سجنت رئيسه لكشفه فسادا فاق الستمائة مليار جنيه، والمجلس الأعلى للإعلام الذي تحول إلى بوق للسلطة وذراع لها، وهو ما تكرر مع بقية الهيئات المستقلة بما فيها المؤسسة القضائية ذاتها والنائب العام والبرلمان .. إلخ.

لم يكن الانتصار الأخير الذي حققه الأزهر في معركة قانون دار الإفتاء التي كان يراد لها أن تكون هيئة دينية موازية، ومكافئة للأزهر، بل وساحبة للبساط من تحت قدميه، هو الانتصار الوحيد أو الأول ضد نظام عبد الفتاح السيسي الذي استهدف الأزهر منذ اللحظات الأولى بزعم أنه يقود الجمود في مواجهة دعاوي التجديد الديني التي طرحها السيسي، ولن تكون هذه الجولة هي نهاية الصراع بين الطيب والسيسي.

ربما كان الانتصار غير المرئي الذي مهد لهذا الانتصار الأخير هو نجاة الأزهر من مذبحة التعديلات الدستورية التي جرت في أبريل 2019، حيث كانت النوايا واضحة لاستهداف البند الدستوري رقم 7 الخاص بالأزهر بالتعديل، وكان الهدف هو إطلاق يد السيسي في إقالة شيخ الأزهر المحصن من العزل وفقا لتلك المادة، لكن التعديلات تمت دون المساس بتلك المادة لأن الأولوية عند النظام كانت ساعتها لتمرير المواد الأخرى الخاصة بتمديد فترة حكم السيسي وتوسيع صلاحياته، وفي الوقت نفسه توسيع صلاحيات المؤسسة العسكرية في صفقة متكافئة بين الطرفين (السيسي والمؤسسة العسكرية).

الطيب ومذبحة رابعة:

على غير ما يعتقد الكثيرون خاصة من رافضي الانقلاب، فإن الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر رغم أنه كان جزءا من المشهد الانقلابي في 3 يوليو 2013 إلا أنه استنكر بشكل واضح مذبحة رابعة، وأصدر في حينها بيانا تلاه بنفسه ليؤكد براءته من تلك الدماء، لم ينتبه الكثيرون لذلك البيان في حينه، وحتى الذين استمعوا له لم يكونوا راضين عنه، فقد كانوا في ذلك الوقت غارقين في دمائهم، ولا يزالون تحت القصف، وكان أقل شيء يمكن أن يريحهم هو إعلان شيخ الأزهر استقالته بشكل مباشر، لكن الكثيرين منهم حين عاودوا الاستماع للبيان لاحقا عرفوا قيمته رغم أنه لم يوقف مذبحة، ولم يحقن دماء، لكنه على كل حال كان موقفا معقولا من رئيس اكبر مؤسسة دينية في مصر والعالم الإسلامي، أتذكر أنني سألت الدكتور جمال عبد الستار الأستاذ بجامعة الأزهر وأحد نجوم منصة رابعة في حوار تلفزيوني قبل عام تقريبا عن رأيه في بيان شيخ الأزهر بعد أن أسمعته إياه فرد بأنه “كأنه يسمعه لأول مرة”، مثنيا عليه، رغم أنه استمع إليه من قبل، ولكن في ظرف مختلف، حيث كانت الدماء لا تزال تغطي المكان ورائحة البارود وقنابل الغاز تخنق الأنفاس.

الحقيقة أن تلك الإدانة للدماء لم تقتصر على مجزرة رابعة بل سبقها إدانتان لمذبحتي الحرس الجمهوري والمنصة، وكان بيان شيخ الأزهر عقب مذبحة الحرس الجمهوري (الذي تلاه بنفسه أيضا) قويا بمقاييس وقته حيث جاء بعد 5 أيام فقط من الانقلاب، ولم يقتصر على التنديد بالمذبحة، ولكنه طالب بفتح تحقيق عاجل فيها، وإعلان النتائج للشعب المصري، كما دعا لتشكيل لجنة للمصالحة الوطنية ومنحها صلاحيات كاملة لتحقيق المصالحة الشاملة، وطلب تحديد الفترة الانتقالية بستة أشهر فقط، وأتبع كل ذلك بإعلان الاعتكاف في بيته في الأقصر احتجاجا على إراقة الدماء، أما بيان الشيخ لإدانة مذبحة المنصة يوم 27 يوليو 2013فقد كان مكتوبا، ومع تنديده بالمذبحة فقد طالب بتحقيق فوري، وأكد أنها تفسد كل جهود المصالحة ومحاولات رأب الصدع.

العار:

هل أدرك شيخ الأزهر خطأ مشاركته في مشهد الانقلاب يوم 3 يوليو فأراد أن يمحو عاره بتلك المواقف التي بدت صداما مبكرا مع النظام الجديد؟ ربما نعم، وربما لأنه أراد أن يحتفظ لنفسه ولمؤسسته بمكانة وسط تسمح له بلعب دور وساطة، وهو ما شرع فيه بالفعل وكان على وشك إعلانها يوم 14 أغسطس لكن الفض وأدها في مهدها، وبغض النظر عن صحة هذه المعلومة أو هذا التخمين، فإن جملة المواقف المتتالية لشيخ الأزهر في تلك الفترة -التي ارتفعت فيها حدة الاستقطاب السياسي، والتي كان الكثيرون فيها يرقصون على الدماء، وبعضهم انتسب يوما للثورة وميادينها – ولمؤسسة تحسب له الأزهر، ويقابلها مواقف أخرى تحسب ضده أيضا وأولها مشاركته في المشهد الانقلابي ذاته، وكذا صمته لاحقا على عديد السياسات الإجرامية لقائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، ومنها اقتحام جامعة الأزهر ذاتها، وقتل العديد من طلاب الأزهر، والتفريط في حقوق مصر في المياه والثروات الطبيعية وجزيرتي تيران وصنافير، واعتقال عشرات الآلاف، وأحكام الإعدام المتتالية وتنفيذ الكثير منها.

مبكراً:

الصدام بين شيخ الأزهر والسيسي بدأ مبكرا وإن لم يره البعض، وما هذه البيانات التي أشرت إليها إلا مظهرا لهذا الصدام المبكر، لكن الأمر لم يقتصر عليها، إذ تصدى الشيخ لما يسمى معركة تجديد الخطاب الديني التي أطلقها السيسي شخصيا، تنفيذا لرغبات دولية، وقد طلب السيسي من الأزهر قيادة هذه المعركة لكن الأزهر أصبح قائد المواجهة لهذا التجديد المزعوم، وهو ما أزعج السيسي ودفعه للنيل من شيخ الأزهر على الهواء في عبارات بدت مداعبة ثقيلة، لكنها عبرت عما يبطنه، مثل قوله “لقد أتعبتني يا فضيلة الإمام”، كان فضية الإمام في ذلك الوقت يقف صخرة في مواجهة العدوان على ثوابت الدين والسنة النبوية، ولا يزال الأزهر حجر عثرة أمام خطط السيسي لتخريب الخطاب الديني.

وإذا كان نظام السيسي قد انحنى أمام الأزهر في هذه الجولة فإنه لن يهدأ حتى يختفي شيخ الأزهر من المشهد، أو يختفي السيسي نفسه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه