(التمكين) العسكري في مصر

 

بينما يتلهى أنصار ودعاة الدولة المدنية من ليبراليين ويساريين وإسلاميين، وبينما يتناطحون بينهم حول هوية الدولة وملامحها، فإن هناك أخرون اغتنموا الفرصة لبناء دولتهم العسكرية، والتمكين لها.
هل تتذكرون أحاديث “خطط التمكين والأخونة” التي كانت تطبخ في مطابخ الأجهزة الأمنية ثم توزع على وسائل الإعلام لترويجها كالببغاوات؟ وهل تتذكرون أنها كانت من بين ذرائع انقلاب الثالث من يوليو 2013 والذي ظن بعض المدنيين أنه سيفتح لهم الحياة السياسية والمناصب السياسية بعد إبعاد الإخوان؟ وهل تتذكرون قسم السيسي المغلظ “لا والله ما حكم عسكر”؟ حسنا ها هي دولة العسكر تبنى طوبة طوبة أمام أعينكم.

ترسانة القوانين:

ها نحن أمام ترسانة قانونية جديدة “تشرعن” كل مظهر للعسكرة، وتفرضه على الشعب، حيث وافق مجلس النواب يوم الإثنين على عدة قوانين تكرس التمكين العسكري، كان أولها إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي بدمجه مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في اجتماع مشترك تكون قراراته بالأعلبية عند الأزمات، والثاني هو تعيين مستشار عسكري وعدد من مساعديه لكل محافظة يتم تعيينهم وإنهاء خدماتهم من وزارة الدفاع مباشرة، والثالث هو منع ترشح ضباط القوات المسلحة الحاليين أو المحالين للتقاعد للانتخابات النيابية أو الرئاسية أو المحلية إلا بموافقة صريحة من القوات المسلحة، أما الرابع فهو خاص بمنظمات الدفاع الشعبي والتربية العسكرية في التعليم الثانوي والجامعي.

قد تمر هذه القوانين على البعض مرور الكرام، فهم مشغولون فقط بلقمة عيشهم، أو يخشون البوح بأي نقد إيثارا للسلامة، لكن المتمعن في هذه القوانين سيكتشف على الفور أننا أمام دولة عسكرية سلطوية لم تشهدها مصر من قبل حتى في فترة الخمسينيات والستينيات، وستكون مصر بهذا الشكل منافسا قويا لكوريا الشمالية وجمهوريات الموز!!.

 القوانين الجديدة استظلت شكليا بنص المادة 200 من الدستور وهي إحدى المواد التي أدخلت في مهزلة تعديات إبريل من العام الماضي والتي فتحت الباب للسيسي للبقاء في الحكم حتى العام 2030، وهذه المادة تنص على ” القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها وصون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد، والدولة وحدها هي التي تُنشئ هذه القوات، ويحظر على أي فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية”.

التعديلات المرفوضة:

للتذكير فقد رفضت كل القوى الوطنية الثورية تلك التعديلات في حينه، وقد تعرض الكثير من منتسبيها للاعتقال والمطاردة بسبب ذلك، لكن التعديلات على كل حال مرت بالأغلبية “الميكانيكية” المتاحة للسيسي في البرلمان، وكان واضحا منذ الإعلان عن تلك التعديلات أن هذا النص جاء في إطار تسوية بين السيسي وقادة المؤسسة العسكرية يتمتع السيسي بمقتضاها بتمديد حكمه حتى العام 2030، وتتمتع القوات المسلحة بحق حكم مصر الفعلي، ودعك من الكلام “العدمي” عن صون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد، فهل يصدق أحد أن قيادة عسكرية  انقلبت على الدستور والديمقراطية ومكتسبات الشعب يمكنها أن تحافظ على ذلك؟!! ومنذ متى كانت القوات المسلحة هي التي تحافظ على مدنية الدولة؟!! إذا كان المتحدث مجنونا فليكن المستمع عاقلا.

في القانون الأول الخاص بالاجتماع المشترك لمجلس الأمن القومي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة (تعديل بعض أحكام القانون رقم 19 لسنة2014 )  حرص على تغليب العنصر العسكري بأغلبية كاسحة في هذا الاجتماع المشترك الذي يتخذ القرارات المصيرية في البلاد، فالمعروف أن مجلس الأمن القومي يضم 12 عضوا بخلاف الرئيس، منهم 9 وزراء وشخصيات مدنية، و3 شخصيات عسكرية في حين أن المجلس العسكري يضم 23 عضوا بخلاف الرئيس كلهم عسكريين، أي أننا أمام اجتماع من 36 عضوا بينهم 26 عسكريا بخلاف رئيس الاجتماع العسكري أيضا، وبما أن القرارات ستكون بالأغلبية فالأغلبية مضمونة للصوت العسكري.

القانون الثاني الخاص بتعيين مستشار عسكري لكل محافظة، وعدد كاف من المساعدين يصدر بتعينهم وتحديد شروط شغلهم الوظيفة قرار من وزير الدفاع، وحددت التعديلات “اختصاصات المستشار العسكري للمحافظة، والتي تشمل المساهمة في المتابعة الميدانية الدورية للخدمات المقدمة للمواطنين والمشروعات الجاري تنفيذها والتواصل الدائم مع المواطنين في إطار الحفاظ على الأمن القومي بمفهومه الشامل ولتحقيق موجبات صون الدستور والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة والتنسيق مع الجهات التعليمية على مستوى المحافظة لتنفيذ منهج التربية العسكرية وفقا للقواعد التي تحددها وزارة الدفاع”، وهذا الكلام يعني أننا أمام محافظ فعلي ستكون له الكلمة العليا فوق المحافظ الرسمي حتى لو كان عسكريا وذا رتبة أعلى من المستشار العسكري لسبب بسيط أن هذا الأخير تابع لوزارة الدفاع وليس لوزارة الحكم المحلي، وأنه مكلف بمهام أوسع وأرفع من مهام المحافظ وهي صيانة الدستور وحماية البلاد ومدنية الدولة !!!، ويكتمل هذا الدور للمستشارين العسكريين بتعديل بعض أحكام القانون رقم 55 لسنة 1968، بشأن منظمات الدفاع الشعبي، ومجالس الدفاع الشعبي على مستوى كل محافظة التي ستكون مهمتها معاونة القوات المسلحة في مهامها، وبما أننا في دولة عسكرية فعلى الأرجح ستكون هذه المنظمات الشعبية هي النسخة الأردأ لمنظمة الشباب قديما، وسيكون دورها هو مراقبة الشعب، والتدخل في حياته والتجسس عليه، بزعم حماية الدولة المدنية وصيانة الدستور!!.

منع ترشيح العسكريين:

وأما قانون منع ترشح الضباط الحاليين والسابقين للانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو المحلية بدون إذن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فقد أغلق الفرص عمليا أمام الترشح إلا لمن يكونون محل رضا القيادة العليا، ورغم أن القانون قبل التعديل كان يسمح للضباط الراغبين في الترشح أثناء الخدمة بشرط تقديم استقالاتهم، إلا أن التعديل الجديد أغلق عليهم هذه الفرصة، وفرض عليهم الحصول على إذن مسبق بالترشح حتى لا تتكرر تجربتا سامي عنان والمقدم أحمد قنصوة، كما أن التعديل أغلق الباب أمام الضباط السابقين للترشح إلا بإذن مسبق وهو مالم يكن موجودا من قبل، وهو ما يعني تحكم المجلس الأعلى في هذه الترشيحات وقبول بعضها إذا كانت على هواه ورفض بعضها خاصة إذا ترشح ضمن أحزاب تبدو مشاكسة (في المستقبل)، باختصار سيتحكم المجلس الأعلى في تركيبة النواب العسكريين(الحاليين والسابقين) في أي برلمان أو محليات.

لم يكتف النظام الانقلابي بعسكرة الاقتصاد، والإعلام والتعليم، فيعمد اليوم لعسكرة ما تبقى من أوجه الحياة، ويتوسع في المحاكمات العسكرية للمدنيين ليحل القضاء العسكري بديلا للقضاء المدني مع الوقت، وهكذا نرى مصر تتحول أمام أعيننا إلى معسكر كبير لا مكان فيه لصوت حر أو مستقل، ومع ذلك تستمر المعارك الدون كيشوتية بين دعاة الدولة المدنية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه