“الهروب من أعباء وتكاليف الواقع إلى “الوقوعية

 

طبيعة الصراع مع الأنظمة العسكرية المستبدة هو “صراع بقاء” لا مجال فيه لأرضية مشتركة، ولا حل له سوى التغيير الشامل.. وعدم وضوح الرؤية حول طبيعة الصراع يربك حركة التغيير ابتداءً،، ويفشلها انتهاءً..

إذن لا عجب، أن الموجة الأولى من الربيع العربي 2011 فشلت فيها كافة الأحزاب والتنظيمات فشلا ذريعا أمام الثورة المضادة، فشلت حتى في حماية نفسها، فضلا عن شعوبها.. حتى أصبحت الشعوب تحمَّل كافة الأحزاب والجماعات والأيدولوجيات المسؤولية التامة عما آلت إليه الأوضاع.

ولا عجب كذلك، حين اكتشفت الشعوب العربية أن كل من يتاجر بشعارات دينية وقومية ويسارية وعلمانية لا يمثلونها، وإنما يمثلون مصالح فئات ضيقة تتاجر بتلك الشعارات،، ويتزرعون “بالواقعية” والبرغماتية والسياق والإكراهات الداخلية والخارجية وغيرها من العبارات الرمادية،، والمواقف المتأرجحة مرة هنا ومرة هناك..

هذه الأحزاب والجماعات والأيدولوجيات لم تفلح في تغيير الواقع، فلا اصلاح ولا نهضة ولا وحدة ولا استقلال حققت،، ولا حققت حتى شعارات الثورة..

والآن عندما رأت شعوب المنطقة ما جرى، تجاوزتهم في الموجة الثورية الثانية وحمَّلتهم مسؤولية الإخفاق وتردي الأوضاع، وهنا لجأ بعضهم في محاولة يائسة إلى مغازلة أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية،، وإبداء الرغبة في العودة إلى أحضان النظام وممارسة دوره الوظيفي رابطاً مصيره ومصير حزبه وجماعته، بتلك الأنظمة المستبدة علها تطيل من فترة بقاء حزبه أو جماعته على أجهزة الإنعاش والحياة بالفتات.

 فهل ينبغي أن تدفع الشعوب الثمن جيلا بعد جيل حتى تدرك هذه الأحزاب والجماعات والأيديولوجيات، أن ثمة مشكلة ينبغي التصدي لها كما يجب؟!!

وكم عدد المجازر التي ترتكب في حق الشعوب ينتظرون حتى تدرك تلك الأحزاب والجماعات والأيديولوجيات أننا “عبيد” يحق لنا العيش بحرية وأمن وعزة؟!!

فن الممكن:

بل متى تدرك أننا نعيش في دويلات فاقدة للسيادة وشروط الرعاية والحماية،، دويلات ليس فيها حريات سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية ولا ثقافية ولا فردية ولا حقوق ولا عدالة ولا تكافؤ فرص،، ولا قيم ولا أخلاق ولا عقيدة إلا قيم النظام وأخلاقه وعقيدته التي جلبت العبودية؟!

ليس شرطا أن تكون قادة الأحزاب بكل أطيافها ثورية، وإنما الأهم أن تربطهم علاقة وثيقة بالموقف والقيم والأخلاق والفكرة، فتحكم رؤيتهم قيم ومعايير لا تقبل المساومة والتملق والانتقائية،، تمكنهم من القدرة على اتخاذ مواقف في الشأن العام والقضايا المصيرية من دون انتهازية أو تملق أو انغلاق أو استعلاء..

وفرق كبير بين من له مشروع تحرير الاوطان وانقاذ الانسان، وبين من كان مشروعه انقاذ حزبه أو جماعته ولو بالعودة لأحضان منظومة الاستبداد والفساد والتبعية..

فإذا كان تعريف السياسة بـ “فن الممكن” فإن الممكن لا يعنى الموجود أو المتاح،، وإنما يعنى نهاية حدود الإمكانيات والإمكانات، فهي “فن الممكن من أجل التمكين”؛ لذلك السياسة حركة تفاعلية مع الواقع تنطلق منه نحو تحقيق الأهداف باستخدام كل الوسائل المتاحة وتعظيمها والاستنفادة من كل الإمكانات وتفعيلها.. ومهما كانت الإمكانات ضعيفة فإن العنصر الإنساني يلقى عليها معنى،، ويحولها من شيء عديم القيمة إلى قيمة تفوق طاقة الأشياء..

ومن ثم فالواقعية تعنى الانطلاق من معطيات الواقع والابتكار في تفعيلها من خلال رؤية نافذة تخترق حجب الزمن وتغوص إلى ما وراء الواقع لتخلق واقعاً أقدامه على أرض الواقع ورأسه فوق السحاب..

الواقعية:

فالواقعية التي يتشدق بها أنصاف العلماء من الخبراء والاستراتيجيين وهواة السياسة ليست واقعية بل هي “وقوعية”، أي هي حالة من وقوع الرأس تحت القدم؛ بحيث أصبحت الرؤية لا تتجاوز أنوفهم وموضع أقدامهم، وتقبل بالأدنى لأنها في الأدنى، وتتنفس الهوان لأنها ملتصقة بالثرى والطين وتسعى إلى تبريره واعتباره الحد الأقصى للطموح.

فذلك الفكر الوقوعي وليس الواقعي يدعو إلى الرضا بالموقع الأسفل،، وتقبيل اليد التي تهيمن، المنتهك لسيادة الشعب وحرمته والناهب لثرواته والمدمر لإمكاناته ويرى ذلك شرفا يتشدق به الوقوعيون ويفاخرون به بل يعتبرونه نضالا ومقاومة وجهادا..

ولو تخيلنا أن هذه الفصيلة البشرية الوقوعية كانت هي السائدة في التاريخ البشرى لخلا هذا التاريخ من الثورات وحركات التحرير وكل الفعاليات التي كانت تمثل خروجا عن المألوف ، ولما تقدمت البشرية خطوة إلى الأمام ولما حصلت الشعوب على حقوقها ونالت حريتها وكرامتها..

لذلك وجب علينا، نحن العرب، أن نحرر الفهم والعقل من فلسفة الوقوعية ونتفاعل مع الواقع كمعطى مادي تستطيع يد الإنسان أن تحوله وتغير معانيه ودلالته.. ويبدو أننا أمام رحلة طويلة ومريرة وشاقة من إنضاج الوعي، حتى تجاوز الناس القوى السياسية التقليدية القديمة ،  وأصنام المرجعيات التي أصبحت نسخاً بائسة من أنظمة (الاستبداد والاستحمار والفساد والتبعية المُذلِة) ، إنه واقع جديد حقًّا ،، وإن كان يبزغ بمشقّة وصعوبة..

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه