المراجعات التراجعية

رويدكم أيها (المفكرون!) الجالسون فوق تلال الحداثة المؤسلمة؛ فإنّ الأخطاء التي لم تناقشونها ولم تقتربوا منها شاخصة بادية للناظرين ولكنّكم تتجاهلونها وتتغاضون عنها

 

هل كان صواباً أم خطأً ما فعلناه وأقدمنا عليه؟ هل كان مغرماً أم مغنماً قرارُ الترشح للرئاسة؟ هل كنّا – معشر الإسلاميين – مبادرين إلى الخير والمصلحة عندما ولجنا بكل قوتنا إلى هذا الميدان؟ أم إنّ العجلة الممزوجة بالنزق والطيش والتهور دفعتنا إلى حلبة من الصراع الذي لم نتأهل له؟ وهل كان الإخوان المسلمون وحلفاؤهم محقين وموفقين في قرارهم؟ أم إنّ الصواب جانبهم وهجر فراش الشورى والإرشاد وسائر منابع الرأي والسداد؟ تساؤلات مشروعة عندما تأتي في سياق التقييم الكامل الشامل للتجربة برمتها، وعندما تدور في فلك مراجعة حقيقية تحظى بالتجرد وتسعد بالاستقلال وتخضع لقواعد المنهج العلميّ في النقد والتقييم.

آثرنا الصمود:

   ولا مانع من إثارة تساؤلات أخرى تأتي معها بالتوازي على خط المراجعات، مِنْ مِثْل: ألم يكن من العقل والحكمة أن يبادر الرئيس – إذْ عاين الأزمة واطلع على أبعادها وتبين له أنّ التجربة في طريقها إلى الزوال – أن يبادر إلى الإعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة؛ فيكسب بذلك لنفسه ولجماعته ولسائر الإسلاميين في مصر وغيرها أسهماً من الاحترام والتقدير والتوقير، ويعود بالجماعة وحلفائها إلى مواقعهم القديمة في الدعوة والتربية من طريق آمن، ويغتال كثيراً من المؤامرات التي كانت تحاك للعمل الإسلاميّ، ويضع المناوئين وجهاً لوجه أمام التحدي الذي نراهن على أنهم أقل بكثير من مواجهته؟

   وإذْ لم يفعل ولم نفعل وآثرنا جميعا الصمود؛ ألم يكن من اللائق بنا والواجب علينا أن نتخذ للصمود آلياته وأدواته على الأصعدة المختلفة؟ لماذا لم يتخذ الرئيس يوم إعلان العسكر عن نيته ببيان 1/7 قراراً بعزل وزير الدفاع ومن حوله؛ ليضع الخائن العميل في إشكالية دستورية ويعرقل مسيرة العسكر؟ ولماذا لم نتخذ نحن قراراً بالمبادرة إلى حماية الرئيس والخروج به من القصر أو الانحياز المبكر إلى القصر قبل انتهاء مهلة ال 48 ساعة؟ وإذْ لم نفعل وغفر الله لنا تقصيرنا وجبر كسرنا وأمدنا بالملايين من أبناء الشعب؛ فلماذا لم يكن لنا حراك يوجع النظام وينهك قواه في وقت لم يكن قد استفاق فيه من آثار ضربات الثورة؟!

تساؤلات مشروعة:

   كلها تساؤلات مشروعة وموضوعية ولابد من استصحابها في مسار المراجعة، أمّا عندما تُختزل المراجعة في بحث مسألة “قرار الترشح للرئاسة” فإنّ هذا المسلك المنحرف سيقودنا إلى تزوير الحقائق وتسطيح القضايا، ولاسيما مع القفز على أصل الإشكال المطروح؛ وصولاً إلى البحث عمّن كان السبب في الذهاب إلى قرار الترشح؛ لتنحصر المراجعة في اتهام ودفاع، ومِنْ بعده تهارج وتدافع؛ بما يعني أنّ الإجماع منعقد على أنّ القرار كان خاطئاً، بينما موضع الإشكال هو: هل كان وراء القرار الخاطئ مَنْ يُسئل عنه ويتحمل تبعاته؟ أم إنّ الناس جميعاً أبرياء والأمر بمحض القدر الذي يجب التسليم له!!

    وإذا كانت المراجعة ضرورية وحتمية لتقويم التجربة وتعديل المسار فإنّه من الواضح أنّ لدينا مشكلات ضخمة في ممارستنا لعملية المراجعة، فإن تجاوزنا عقبة الوصاية والإملاء وتخطينا إشكالية الاختراق الذي يبلغ الأعماق فإنّ أبرز مشكلاتنا في كل مراجعاتنا أنّها تأتي تحت ضغط الهزيمة النفسية؛ فلا تتمحض للمراجعة والتقييم، ولكن يذهب جلّها في إرضاء النفس وتسكين ثائرتها، نحن لا نملك الشجاعة الكافية لمواجهة أنفسنا بأخطائنا، ولا نملك القدرة على إدارة عمل جماعيّ يستهدف التقييم والتقويم، ومن ثم فإنّ الهروب بصورة أو بأخرى يكون هو العلاج المسكن لآلام الشعور بالذنب والتقصير، ولا أحسب هذا المسلك الذي نسلكه في قضية قرار الترشح للرئاسة إلا هروبا؛ إمّا بتعليق التبعة على شماعة القدر وإمّا بجلد من لا يستحق الجلد إلا ضمن خطة لغلق باب الشورى بأعقد الأقفال.

الشورى:

    إنّ الله تعالى عندما أمر بالشورى أدغم هذا الأمر الكبير بأمر آخر لا يقل عنه أهمية وفاعلية، وهو المضيّ فيما تشاور فيه أهل الشورى بلا تلعثم ولا تردد؛ فقال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران 159)، هذا ما يقتضيه النظر البعيد وتستدعيه الهمة العالية ويحتمه ضرورة عدم الالتفات إلى الخلف، وقد تَعْجب من تصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم عندما أصرّ على الخروج اتباعاً للشورى التي جاءت على خلاف رأيه وعلى خلاف الرؤيا التي رآها، ولم يلتفت للشباب عندما عرضوا عليه نزولهم عن رأيهم إلى رأيه، وصاح فيهم عندما أكثروا عليه: (مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَضَعَ أَدَاتَهُ بَعْدَ أَنْ لَبِسَهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ)([1])، ثم خرج وخرجوا معه، فلم يلتفت أحدٌ منهم وراءه، عدا هؤلاء الذين سمعوا إرجاف المنافقين وهموا بالرجوع؛ تذرعا بأنّ الخروج كان خطأً، هذا الصنيع سماه الله فشلا: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران 122).

   ثم طفق القرآن يجري مع المؤمنين مراجعة تكشف أخطاءهم التي كانت سببا في الهزيمة، ولا يتعرض للشورى التي نتج عنها قرار الخروج للقاء العدو خارج المدينة، ذلك القرار الذي جاء عائما فوق ثبج ثورة الشباب الذين رغبوا في الفوز بشرف القتال خارج المدينة عوضا عن قعودهم عن بدر العظمى، لم يتعرض القرآن لذلك القرار رغم أنّ الخروج كان أحد أسباب الهزيمة وأنّ المسلمين لو تحصنوا في المدينة لوفرت لهم الحماية من الأعداء، بل على العكس تماماً؛ نزل ما يدل على رفع التبعة ودفع المسئولية عن هذه العملية التي جرت، وهي الشورى، فقال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران 159).

    كلا والله ما أخطأنا بإقدامنا على تحمل مسئولية البلاد في ظل شغور الزمان من القادرين على تحمل العبء والمسئولية، ولا أخطأنا بدفعنا رجلاً منّا نعرف صدقه وأمانته وعلمه وحكمته ليتولى الحكم وينهض بالمسئولية، ولكنّ أخطاءنا جاءت في موضع آخر، غالبا ما نمارس الهروب منه وتحويل الوجه عنه، فنحن إذا لا نملك الشجاعة على فتح الملفات القوية المؤثرة ونمارس الجلد على غير ظهر المحدود.

ضياع الحق التاريخي:

   إنّ الخسارة التي ستحل بنا لدى الإقرار بخطأ الترشح للرئاسة ولدى النشر والتسويق لهذا الإقرار تتجاوز حدود التغطية والتستر على الأخطاء الحقيقية وتتخطاها إلى مفسدة ضياع الحقّ التاريخي والمكتسب الاستراتيجيّ، وهو الشرعية التي حققها الشعب في تاريخ مصر المعاصر مرة واحدة بعد ثورته، والتي يجب أن تبقى أيقونة الثورات في المرحلة المقبلة، والتي تُعَدُّ في رصيد الحركة الإسلامية حقاً تاريخيا، يثبت عمق علاقتها بالمجتمع ومدى تجذرها فيه، ويمنحها على أرض الصراع قوة إقناعية هائلة.

   إنّ هذا المسلك في المراجعات انهزاميّ تراجعيّ، لا يورث طموحاً ولا يرفع همة ولا ينضج مشروعاً، إنّه فقط يورث الإحباط وفقدان الثقة بالنفس والإغراق في جلد الذات، وليس سوى إصغاء لوسوسة النفس المهزومة المأزومة، ولو أنّ الزمان عاد بنا إلى الوراء واستدار كهيئته يوم أن اتخذنا هذا القرار، وعدنا ومعنا ما جمعناه من خبرة السنوات السبع العجاف التي أمضيناها في المهجر، بما في ذلك تلك التراجعات والتوجعات التي نطلق عليها مراجعات، وتعرضنا هناك لنفس الحدث لما تغير رأينا كثيراً عمّا كان أولاً؛ لأنّنا عندئذ سنفكر وحولنا كل الظروف والملابسات المحيطة بالحدث التي تساقطت اليوم بسيف التفكير المجرد المهزوم المأزوم.

   ومن مخاطر هذا التوجه في التفكير أنّه يصرفنا عن المراجعة للأخطاء الحقيقية، فنحن لم نحسن اغتنام الفرصة السانحة، ولم نفلح في إدارة الصراع، وأقول إدارة الصراع لا إدارة الدولة، فإنّ إدارة الصراع هو الأقوى وهو المدخل إلى إدارة الدولة، هذا هو منبع الأخطاء التي تراكمت وتكدست بشكل جعل من المستحيل الإفلات من نتائجها الحتمية السيئة، فإذا كنّا جادين في المراجعات فهلموا إلى مناقشة الأخطاء التي كانت سببا في إفشال التجربة، ودَعوا عنكم هذا الذي تسودون به الصفحات وتعكرون به الفضاءات، فإنّ مناقشة مثل هذه الأخطاء هو المسلك الذي ينضج التجربة ويخصب الفكر.

   ثم إنّنا نناقض أنفسنا بهذا السلوك؛ إذ لو كان الأمر على هذا النحو، وكانت القصة أننا قوم تسرعنا وتجشمنا ما لا قبل لنا به؛ فلماذا نغضب وعلى ماذا نعترض؟! وما جدوى الحديث عن الشرعية وعن رئيس قُتل مظلوما، وعن خائن وعميل انقلب عليه؟ وفيم المعارضة للانقلاب والاعتراض عليه وعلى أفعاله؟! إنّنا من حيث ندري أو لا ندري نضعف من موقفنا ونحبط حقنا في المعارضة السياسية؛ إذْ لا يحق لمن لا يملك القدرة على أن يكون في الحكم أن يعترض على من يحكم، وإذاً لن نكون اليوم منسجمين مع خطابنا هذا إلا بأن نتخلى عن كل ما نثيره في إعلامنا؛ لنتفرغ للدعوة والتربية ونعلن انسحابنا من الحياة السياسية برمتها والعودة إلى الدعوة، لتنحصر مطالبنا في الأمور الحقوقية والإنسانية.

الحالسون فوق الحداثة:

   رويدكم أيها (المفكرون!) الجالسون فوق تلال الحداثة المؤسلمة؛ فإنّ الأخطاء التي لم تناقشوها ولم تقتربوا منها شاخصة بادية للناظرين ولكنّكم تتجاهلونها وتتغاضون عنها؛ لاندفاعكم بلا روية ولا تؤدة في طريق نسف التجربة برمتها، وكأنّنا نحن الإسلاميين متخصصون في تعليق التجارب على أعواد المشانق، وفي ممارسة الإعدام لكل مبادرة أو إقدام، رويدكم فإنّ أعداءكم لم يطمعوا منكم في أكثر من هذا، ولو تراجعتم ألف خطوة للوراء فلن يقبلوا منكم بعد أن رأوا قوتكم إلا ما يمحوا كل أثر لكم في هذه الحياة: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة 120).

   ثم إنكم لا تملكون هذا الأمر وحدكم؛ وإلا فهل كان الرئيس مرسي رئيسا لجماعة الإخوان المسلمين؟ أم إنّ مصر اختصرت في جماعة الإخوان المسلمين؟! إنّ الشأن شأن عام، وإنّ الأمّة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها لها في هذا الشأن، وإذا كان الأمر داخليا يتعلق بمصلحة الجماعة فلا يصح أن يخرج إلى الإعلام متداخلا وملتبسا مع الشأن العام، ففي نهاية المطاف الرئيس محمد مرسي رجل من الشعب المصري ومن الأمة الإسلامية اختاره الشعب وارتضته الأمة، فإن كان هناك جلد بسبب الذهاب إلى هذا الاختيار فهو في ظهر الشعب وفي ظهر الأمة قبل أن يكون في ظهر مجلس شورى الإخوان أو مكتب إرشادهم، ومن ذا يملك جلد الشعب في اختياره أو جلد الأمة في ارتضائها؟!

   عليكم بتوجيه المراجعات إلى الأخطاء الحقيقية، وعليكم بأن تشركوا الناس معكم، وعليكم قبل ذلك بالعودة إلى الجماعة والوحدة والألفة؛ حتى لا تبقى المراجعات تقاذفا بالاتهامات وتنابزا بالألقاب وتبادلا للشتائم، فمن رأى في ذلك حرجاً وأحس منه ضيقاً فليعلم أنّه هو ذاته الحرج والضيق والعنت.

———

([1]) سنن البيهقي الكبرى (13282) المستدرك للحاكم (2588) مغازي الواقدي 1/214 الرحيق المختوم 228

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه