كروم .. ومنير .. حديث الحياة والموت

 

مات الأستاذ حسنين كروم (82 عاماً)، يوم الثلاثاء 30 من يونيو/حزيران  الماضي،  ولحقه الأستاذ محمد منير (65عاماً) يوم الاثنين 13 من يوليو/تموز الجاري.

الفقيدان قامتان كبيرتان في مهنة الصحافة المصرية، وكان لهما دور بارز في الكتابة والفكر، والبحث عن الحقيقة وعرضها، وتنوير الرأي العام.

كانا ينتميان أيدلوجياً إلى تيار اليسار الوطني، لكنهما يتميزان بما قد لا يتوفر في الكثير من أصحاب الانتماءات السياسية الواضحة والمحددة، فهما متصالحان مع كل التيارات والاتجاهات الحزبية والسياسية والفكرية.

كانا منفتحين على جميع المشتغلين بالعمل العام، صديقين وحبيبين لكل أصحاب الأفكار والتوجهات في المجال العام، عابرين لكل ألوان الطيف السياسي، نموذجين للسلام الداخلي، والتوازن النفسي الشخصي.

 البسمة على وجهيهما كان لها تفسير واحد هو النقاء والصفاء والمحبة، والكلمة عندهما صادقة مخلصة راقية طيبة، لا يعرفان العدوانية ولا الكراهية ولا الأحقاد ولا الضغائن، كبيران عقلاً وتفكيراً ومهنية، حازا الاحترام في حياتهما وعند رحيلهما، وهو رحيل يمثل خسارة لمهنة القلم والرأي والثقافة والفكر.

قامتان من زمن الصحافة الجادة

كروم ومنير من جيلين مختلفين زمنياً، لكن يجمعهما أنهما من عطر زمن الصحافة الجادة والقيم المهنية والأخلاقية، وهذه القواعد تتراجع مع رحيل كل من ينتمي إلى المدرسة العتيدة في المهنة التي تتآكل بأسرع من اللازم، تتآكل رسالة وقيماً وصناعة، فلم تعد صحافة اليوم هى صحافة الأجيال السابقة، حتى لو كانت صحافة سلطوية، لكنها كانت أفضل وفيها رصانة، وكان هناك مسحة معارضة ورأي آخر في صحف حزبية وأقلام لا تعوض في صحف قومية (حكومية).

الرموز يرحلون واحداً تلو الآخر، والمهنة تفقد جدرانها وأركانها وأعمدتها وحراسها فتبدو عارية مكشوفة، ولا تجد من يسترها، لا تزال هناك أقلام ومواهب وعقول تتمسك بالقيم والأصول والرقي المهني، لكنها ممنوعة من العمل، أو مغضوب عليها، أو آثرت الانزواء، فلا مكان لها تحت شمس صحافة ضحلة ضعيفة دعائية بشكل بليد، لا رسالة لديها للمجتمع والوطن، ولا مهنية بين سطورها، ولا صنعة في معالجاتها، ولا رؤية في مساراتها، ولا رأي في مقالاتها، ولا صحافة فيها من الأصل.

الصحافة الورقية في النزع الأخير صناعة ورسالة، الصحافة تزدهر في المضامين والمداخيل المالية في مناخ الحرية والاستقلالية المهنية فقط، وما دون ذلك فإنها تسير في طريق الجمود، ثم الانهيار، وهذه أزمة الصحافة والإعلام المصري اليوم.

منير .. بوصلة الحرية

علاقتي الشخصية بالأستاذ حسنين كروم قديمة، وتعود إلى العام 1994، وتوثقت في العام التالي عليه، أما التعارف مع الأستاذ محمد منير فكان نهاية العام 2013، حدث ذلك في قطر خلال زيارة له للتعليق في قناة (الجزيرة) على الأحداث المصرية، وكان اللقاء الأول في مبنى القناة، والثاني في جريدة (الراية) حيث كنت أعمل، واللقاء الثالث والأخير كان على مقهى في منطقة (أم غويلينة) بالدوحة.

لم نلتق في القاهرة، تحدثنا هاتفياً مرات، كنا أصدقاء لفترة على فيسبوك، كنت أتابع ما يكتبه من نقد سياسي لأداء السلطة ممزوجاً بحس ساخر لطيف، كان صريحاً لا يخفي مواقفه، كنت أقلق عليه.

إحدى ميزات منير أنه كان مقياساً لمستوى الحرية في الكتابة، كنت اعتبره ضوءاً هادياً أو بوصلة لمن أراد الاختلاف مع السلطة في بعض سياساتها، كان كاتباً حاداً في انتقاده لسياسات النظام، كان أقرب في لغته للمعارضة الخارجية، وكان بقاؤه حراً يمنح طمأنينة لمن يمارس النقد مثله، أو أقل منه بدرجات، لكن تزعزعت فكرة الأمان الشخصي للمختلف مع السلطة من الداخل، فالكتابة النقدية، ولو هادئة ومن دون الارتباط بحزب أو تيار سياسي، ليست مطلوبة ولا مرغوبة، بل مكروهة، ومكلفة لصاحبها، وجاء اعتقال منير في 15 من يونيو/حزيران الماضي لتأكيد أنه لا يوجد شيء مضمون على الإطلاق.

محمد منير
خاتمة حياة كريمة

قدم منير في شهره الأخير في الحياة نموذجاً توج به تاريخه في التمسك بمواقفه، والدفاع عن حريته في التعبير، وقول الحقيقة، وعدم الرضوخ، مهما كان حجم التهديد، أو قيود السجان.

 تم القبض عليه، ودخل السجن، وخرج منه إلى المستشفى مصاباً بفيروس كورونا، ثم الموت، لكنه لم يساوم، ولم يتزحزح عن ثباته في مواقفه وقناعاته، سجل في تاريخه أنه تعرض للحبس في ظل هذا النظام أيضاً.

أتصور، لو كان منير كتب خاتمة حياته بنفسه، ما كان ليكتبها بمثل ما انتهت إليه من شرف وكرامة، وعندما يتحول فيسبوك يوم رحيله إلى منصة حصرية للعزاء فيه، والترحم عليه، ورواية قصته، فإن هذا أبلغ دليل على أنها خاتمة لائقة بمن قال لن أتنازل، أو أفرط، أو أساوم على حريتي، وأنا أقترب من القبر، ومن الله، وكأنه كان النهاية بشفافية روح وقلب.

كروم .. المنفتح المتسامح النزيه

حسنين كروم ناصري الهوى السياسي، ولا تملك إلا أنه تحبه، وتنظر إليه بإجلال، فهو ليس مثل ناصريين آخرين يتسمون بالتعصب للعهد الناصري، كروم يدافع عن الناصرية، لكن من دون تعصب أو تشنج، قومي عربي متسامح ومنفتح على كل التيارات الفكرية والسياسية، هو رجل حوار بامتياز.

 ونزاهته المهنية قياسية، وأذكر أنني خلال تعاوني معه لبعض الوقت في مكتب جريدة (القدس العربي) بالقاهرة قلت له إنني أجريت حواراً مع الراحل ضياء الدين داود رئيس الحزب الناصري، وكان كروم ضمن مجموعة من كوادر الحزب على خلاف مع داود، وفي الحوار سألته عن هذا الموضوع فوجه نقداً لاذعاً لهم، وخص كروم بعبارات قاسية، ولما أخبرته بما قاله داود عنه، وأنني حذفت هذا الكلام، طلب بحزم إعادة كتابة كل ما قاله، فهو غير منزعج، ومن حق الناس أن تقرأ القصة كاملة.

وفي مرات أخرى كنت أخبره ببعض العبارات الصعبة التي قالها الضيوف، ولم أكتبها في الموضوعات، فكان يبدو عليه التبرم، ويقول لي إن ما حذفته هو المهم، وما كتبته هو الأقل أهمية.

حسنين كروم
جبرتي الصحافة المصرية

كان التقرير اليومي عن الصحافة المصرية الذي يقوم بإعداده لينُشر في (القدس العربي) التي تصدر في لندن من أهم موضوعات الصحيفة التي ينتظرها القارئ العربي في أوربا وكل بلد تصل إليه بشغف كل صباح ليطلع على ما يحدث في مصر عبر المقتطفات التي يلتقطها بعين مهني خبير مما تنشره الصحف من مقالات الرأي، والموضوعات المميزة، والأخبار المهمة. حسنين كروم كان جبرتي العصر الحديث للصحافة المصرية.

 وكان يقوم بصياغة كل هذا الفسيفساء في موضوع واحد متماسك ببراعة مع التوضيح والتعليق الذكي منه عبر ثقافته الموسوعية وخبرته الصحفية لربط هذه المادة المتنوعة مقدماً قصة صحفية يومية مميزة عن مصر وأحداثها وقضاياها ومعاركها وأزماتها وصراعاتها وخفاياها وأسرارها.

طلبت منه يوماً أن يمد جريدة (الراية) القطرية بنسخة من هذا التقرير، فقال لابد أن توافق (القدس العربي) أولاً، فهذا حق حصري لها، وكان صعباً أن توافق الجريدة اللندنية على النشر المتزامن، وحتى النشر في اليوم التالي لم يوافق عليه إلا بعد موافقة جريدته، لم يدفعه الإغراء المالي للتخلي عن قيمه في الالتزام والأمانة والمهنية.

الملك حسين يسأل عن تقرير كروم

حكى لي يوماً أنه كان في إجازة، ولم يظهر التقرير، وفوجئت الجريدة باتصال من عاهل الأردن الراحل الملك حسين يستفسر عن غياب موضوع الصحافة المصرية الذي كان يداوم على قراءته يومياً.

 وظن الملك أنه ربما هناك أمور مالية منعته من كتابة التقرير، وعرض أن يدفع أية مكافأت، لكن الجريدة شكرت الملك، وأوضحت له أن الأستاذ حسنين في إجازة، وسيواصل كتابة مادته بعد العودة.

في الاتصال الأخير، قال لي إنه يعيش الآن بشريان واحد، كان قد أجرى عملية معقدة في القلب قبل سنوات طويلة، لكن صوته كان مفعماً بالحيوية وحب الحياة، ووعدته بزيارته في البيت، لكن داهمنا فيروس كورونا، فقلت أذهب إليه بعد انزياح الغمة، لكن القدر كان له قول آخر، فقد منع الزيارة التي لن تتم أبداً في هذه الدنيا.

رحمة الله على أستاذي حسنين كروم، وأخي محمد منير، وأسكنهما فسيح جناته.  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه