صمت المصريين… الحرافيش في حكايات نجيب محفوظ

 

نقف عاجزين تجاه تفسير ما يحدث في مصر، وتعامل المصريين مع هذه الأحداث، ولقد حاولت كثيرا أن أجد تفسيرا لهذه الحالة المصرية وخاصة في ظل ما تمر به المحروسة هذه الأيام من تدهور حال أبنائها اقتصاديا ثم هذا الوباء الذي يحصد أبناءها ويصيب الآلاف يوميا منهم.. علاوة على أن ما يواجهون من كوارث مثل أزمة سد النهضة قد تؤدي إلى انهيار أقدم دولة عرفها التاريخ.

وقد حاول نجيب محفوظ في سلسلة الحرافيش أن يحلل طبيعة المصريين الذين تعودوا على الصمت الطويل على الظلم والطغيان حتى يأتي المخلص لينهي عصر الظلم والفساد والطغيان ويقيم العدل ويوزع خيرات البلاد على الحرافيش..
 لا يملك الحرافيش تجاه ذلك الا انتظار من يشعر بمعاناتهم لتقوم معركة بينه وبين الفتوه الظالم (الحاكم) فإذا حدث أن تغلب عليه فما كان من الحرافيش (الشعب) إلا التهليل للحاكم الجديد للحارة.

إشارات واضحة لدى محفوظ عن الحرافيش

لقد حاول الأديب العالمي أن يشير إلى عدة سمات لدى الشعب المصري كان أولها: السلبية، فهو لا يتحرك من تلقاء نفسه مهما تعرض للظلم والطغيان؛ فالفتوة في الحارة يغالي في فرض الضرائب والجميع صامت رغم ألمهم وبكائهم أمام نبوت الفتوة وعصابته من المشاديد (الشرطة والأجهزة الأمنية) ..
وإذا تجرأ أحدهم وعلا صوته تجاه الظلم عاقبه الفتوة ولا ناصر له من الحرافيش حوله.. هكذا جاءت تلك الصفة التي كررها محفوظ في كل رواياته العشر عن الحرافيش، ومن أشهرها: السيرة العاشورية، الشيطان يعظ، الجوع، التوت والنبوت.

الحرافيش لا تنقذ بطلها!

حين ينهزم الفتوة العادل أو يتم التآمر عليه من قبل العصابة القديمة ورجال الفتوة السابق الذي كان يظلم المصريين لا يتحرك الحرافيش لنجدته بل تجدهم يتقبلون الوضع الجديد دون مقاومة، وتصبح كل حكاياتهم لوم أنفسهم لأنهم خذلوا الفتوة العادل حتى قتله الظالمون لهم دون نجدة منهم أو حتى اعتراض..

 ظهر هذا في كل الحكايات، ويظل الحرافيش يعددون مآثر فتوتهم المغدور به أمام أعينهم، ويعيشون على الذكريات في انتظار عادل جديد يفك أسرهم.

مشهدان جديدان في حكايات محفوظ

في رواية الجوع والتي تحولت إلى فيلم سينمائي حاول المخرج على بدرخان أن يغير في قدرة الحرافيش حينما قدم السيناريو مشهدا للحرافيش يقتلون فرج الجبالي حفيد الفتوة العادل فضل الجبالي؛ ولكن فرج لم يكن سلسالا نقيا لفضل الجبالي، فهو حفيد الفتوة ولكنه الحفيد الفاسد ابن الزنا فجاء حكمه فاسدا ظالما غرته حياة المال والنساء والقصور ولم يحافظ على سيرة جده العادل فأفسد في الأرض وحكم بالقوة الغاشمة فتشجع الحرافيش حينما أحسوا بقوة تجمعهم وقتلوه، وتلك حالة جديدة غير متكررة لدي محفوظ..
وقد نحللهم هنا أنه في ظل عدم وجود شخص يتحمل مسؤولية الفعل قد تتغير أمور الحرافيش رغم أن المشهد الذي تلاها هو مشهد محاولتهم صناعة فتوة جديد قد يكون صالحا او فاسدا، لكن الجبالي الجديد سعى لإقناعهم أن وحدتهم وتخلصهم من الخوف لن يسمح بوجود ظالم جديد، وأنه لا يجب الهتاف لشخص لأنه مع الأيام ربما يتغير هذا الشخص ويتحول إلى شخص آخر غير الذي توجوه عليهم فتوة.

الطليعة في حرافيش محفوظ

أما المشهد التالي الذي لم يأخذ حيزا كبيرا في روايات محفوظ وسلسلة الأعمال السينمائية عن قصصه فقد كان في فيلم التوت والنبوت الذي أخرجه حسام الدين مصطفي حينما حاول أحد أبناء الناجي (عاشور الناجي) الفتوة العادل أن يجعل من الحرافيش قوة مساعدة له كطليعة ثورية في مواجهة الفتوة الذي قتل عاشور الناجي، وأخذ منه الفتونة وحكم الحارة بالظلم والفساد والطغيان..
 حاول ابن الناجي أن ينشر فكرة العمل الجماعي لدى الحرافيش فأخذ يدربهم على النبوت ويجعلهم جزءا من المقاومة للفتوة الظالم وكان لهم  دور في حجز عصابة الفتوة عن الصراع الفردي بين الناجي الصغير والفتوة.. ولكن ما لبث هؤلاء أن عادوا سيرتهم الأولى في الهتاف الفردي للفتوة .

الفتوة الملثم أو اللص الشريف

في مسلسل الفتوة ظهر الفتوة الملثم؛ فحسن الجبالي ابن أحمد الجبالي الفتوة العادل الذي اغتالته أيادي فتوات المحروسة بتواطؤ مع أكبر رجاله أمام طفله؛ أخذ عهدا أمام أمه ألا يتعرض للفتوة خوفا من اغتياله هو الآخر،
 وأمام هذا الوعد وحرصه على تنفيذه لم يجد أمامه فرصة لكي يعيد بعض الحقوق إلا أن يتخفى كملثم ليأخذ من رجال الفتوة ما يأخذون من إتاوات ويعيد توزيعها على الفقراء مرة أخرى، وذلك شبيه بحالات أخرى في التراث الشعبي المصري مثل: أدهم الشرقاوي وعلي الزيبق.. لكن أغرب ما في القصة الجديدة من سلسلة الفتوات والحرافيش هي سلوك الحرافيش. فقد تغنى الحرافيش ببطولات المثلم وكيف أنه يعيد لهم الحقوق ويذكرهم بالجبالي الكبير، وعندما قتل المثلم وأشاع الفتوة أنه حرامي وأنه لص فكان أن ردد الحرافيش هذه المقولة؛ بل إن الفتوة حين قام بجمع ما أخذه المثلم منه من الحرافيش ألقى الحرافيش اللوم على من كان يسعي لعودة حقوقهم!

مشهدان من يناير يؤكدان قراءة محفوظ

كانت ثورة يناير بملامحها صورة تقريبية لهذا التحليل لدى محفوظ للحرافيش أو المصريين كما يشير الرمز.. أما المشهد الأول فكان يوم ٢٨ يناير وهو يوم الخروج العظيم لطليعة الشعب المصري؛ فما من مظاهرة في شوارع القاهرة والمحافظات إلا بدأت قليلة العدد ومع التحرك في الحارات والشوارع بدأ المصريون في الانضمام للمظاهرات؛ ولكن عندما اصطدم المتظاهرون بالشرطة وتم قذفهم بالرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع انفرط عقد الحرافيش، ولم يثبت إلا الطليعة من أبناء القوى الثورية، وعندما فتح الطريق عاد الحرافيش، وهنا لابد أن نشير إلى أن الموضوع هنا جماعي ليس هناك مسؤولية فردية يتحملها الحرافيش..

 وهناك المشهد الأكثر إثارة بعد تنحي مبارك عن الحكم إذ إن معظم الشعب المصري نزل بعد بيان التنحي ليحتفل بتنحي فتوة عن الحكم وليهتف للفتوة الجديد.. وارفع راسك فوق أنت مصري!

هكذا كان المصريون يتطلعون إلى من يهتفون له، لذلك عندما لم يجدوه انتظروه ليظهر لهم فرج الجبالي الابن غير الشرعي للجبالي الكبير ليذيقهم مرارا لم يروه من قبل!

 فهل سينتهي فتوة المصريين الحالي كنهاية فرج الجبالي بطل فيلم الجوع الذي أنتج عام ١٩٨٦.. أم سيظل صمت المصريين على معاناتهم في انتظار فتوة عادل أو طليعة أغلبها في السجون والباقي صاروا من هواة الغرق في متاهات يومية كموضوعات نادي القرن ولتحرش.. وغيرها من العصافير التي تتطاير في سماء القاهرة يوميا!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه