مصر بلد الـ 100 مليون شهيد

 

كلنا في مصر المحروسة مشروع شهيد، إلا من رحم ربي وأنزله منزلة الحكام وبطانة الحكام وأتباعهم، وهؤلاء من أصحاب الجذور العميقة في التراث المصري، وكذلك الفقراء والشحاذون والعرايا مشروع الشهادة.

يقول ألفريد فرج في مسرحيته «على جناح التبريزي وتابعه قفة» على لسان بطل المسرحية، موجها حديثه لكافور «اعلم يا كافور أن المدينة كلما ازداد ثراؤها كثر الشحاذون فيها، فالثورة العظيمة تشعل التنافس والتطاحن فيسقط الضعفاء بكثرة وتلتهب شراهة الأغنياء كلما ضاقت حلقة المتنافسين. أظن أن هذه أغنى مدينة رأيتها في حياتي قياسا على عدد شحاذيها وعريهم».

وهكذا أيضا مصرنا المحروسة كلما كثر عدد فقرائها وشهدائها من الجوعى والمرضى والعرايا والمحبطين والمكبوتين والمطاردين والمقتولين والسجناء، تأكد لنا أنها أغنى دولة في العالم وهو واقع تؤكده ملامح الثراء والسفه الذي تعيشه دوائر الحكم وبطانة الحكام وعبيدهم، تحت ستار من أوهام الأمن والأمان ووعود الرخاء المستقبلية.

وحيث إنني مشروع شهيد لا محالة فسأدخل مباشرة في الموضوع، بعد عشرات السنوات من خضوع مصر للحكم العسكري المستتر في ملامح مدنية، والواضحة معالمه العسكرية الفجة من بعد عام 2013، بالمشاركة مع حلفاء من رجال الأعمال الانتهازيين والمستغلين والعديد من عبيد السلطة وأغلبهم من الإعلاميين، أتساءل عن نتيجة الحكم العسكري في مصر، الذي كان مبرره الرئيسي أن المؤسسة العسكرية هي المؤسسة الوحيدة المؤهلة لتوفير الأمن والأمان وتحقيق التنمية، لأن الانضباط العسكري لا يدخله الخلل من فوقه أو من أسفله، وأنها المؤسسة الوحيدة المحصنة ضد الفساد! وبهذه الصورة الذهنية التي صدرها أصحاب المصلحة داخل المؤسسة العسكرية استطاعوا وبمعاونة غير مباشرة من نخب عميت أبصارها وانهار وعيها في الصراع على السلطة، استطاع العسكريون إزاحة المدنيين من الحكم والجلوس مكانهم بل وتصدير العديد من الصور الذهنية المشوهة للحكم المدني، ولهذا بحسبة بسيطة: ما هي النتيجة؟

الضحايا

النتائج المباشرة لهذا الوضع المتردي الناجم عن طبيعة النظام الحاكم الممتد في مصر واضحة، وتكلمت عنها في مقالات سابقة وتكلم عنها معظم المتابعين والمهتمين بالمسألة المصرية وجميعها تتعلق بكل ما هو ظاهر للجميع من فقر وانهيار اقتصادي ومجتمعي وجهل وأمراض وارتباك أمني واتساع الفوارق الطبقية بشكل مبالغ فيه وغيرها من مشاهد لا ينكرها إلا أعمى البصر والبصيرة.

ولكن الأخطر هي النتائج غير المباشرة والتي تركز تأثيرها على تفاصيل الشعب المصري، فأربكت قيمه وموروثاته الإيجابية التي طالما تحصن بها في مواجهة الغزاة من الخارج والطغاة في الداخل، هذه التأثيرات التي نالت من الشخصية المصرية فدفعتها إلى الخنوع والاستسلام، والتحلي بأسوأ أنواع الصبر على الظلم والذل، وهو ما شكل صمام أمان قوي لكل الطغاة الذين تعاقبوا على حكم مصر، فعلى سبيل المثال يتحدث معظم المصريين بفعل الظلم وفساد الحكم وفاشيته عن أهمية التغيير وضرورة الإطاحة بكل المسؤولين عن انهيار الأوضاع في الوطن، وعندما نصل إلى لحظة التغيير سواء بشكل سلمي أو ثوري، نفاجأ جميعا بانحراف مفاجئ في الإرادة الجماهيرية تجاه رموز من معسكرات الفساد والبطش والفاشية نفسها، بحجج تعكس عدم الثقة في النفس وإحساس دفين بالضآلة والتدني، يجعلهم ينصرفون عن اختيار رموز من بينهم، ويتجهون للمبايعة والالتفاف حول رموز يرون في قوتها الغاشمة وبطشها وظلمها مبررا لصلاحيتها للحكم!

كورونا الفاضحة

أجبرنا كورونا على تأجيل الصراع من أجال الحفاظ على حياتنا، وهذا مبرر اعتاده المصريون، الذين طالما أجلوا أي حراك سياسي من أجل التغيير بسبب وجود طارئ أو أزمة أو مخاوف أو مخاطر أو إرهاب، يلزمنا الاصطفاف وراء القيادة الحاكمة حتى لو كانت مستبدة، فمصلحة الوطن أهم من مصلحة المواطن.

ولكن الجديد أن كورونا كشفت مدى هواننا ليس على النظام المستبد فقط وإنما على أنفسنا بشكل غير مسبوق في فترة من فترات الماضي لدرجة أن فئة الحكام وأتباعهم لم يقلقهم الكوارث التي أصابت البلد مثل كارثة السيول وبعدها كارثة الوباء وما نتج عنها من فقدان الآلاف لحياتهم وانهيار أحوال أسر كاملة وتشردها ليس فقط بفعل الكوارث وإنما كان السبب الأكثر فاعلية هو انهيار بنية المجتمع بفعل الفساد والاحتكار والاستبداد والحكومات الغاشمة الفاشلة، ورغم ذلك لم يقلق النظام الحاكم ورجاله، ولم يخشوا  غضب الجماهير ضحايا فسادهم، وهو توقع منطقي إنساني من أية جماعة يقع عليها ظلم شديد، بل تعامل الحاكم، ورجاله مع الشعب المحاط بالكوارث والمحاط برائحة الموت، باستهتار واستخفاف، وصل إلى حد الاستمرار في فرض الضرائب والرسوم والقيود من دون أي اعتبار للأحوال المعيشية المنهارة، ومن دون أي خوف من أي رد فعل غاضب من غالبية الشعب، وتعاملت معهم على أنهم كائنات لم يفقدوا فقط القدرة على الغضب وإنما فقدوا الإحساس بما يحيط بهم من كوارث، وفي ذروة أزمة الوباء في مصر ونقص الموارد والأدوية والأدوات وانهيار المستشفيات قام النظام بشكل استعراضي بإهداء دول كبرى غير محتاجة، مستلزمات طبية يعاني السوق المصرية من نقصان بها، ويموت الناس نتيجة عدم توافرها، وكأنه يرسل رسالة للشعب بانهم عبيد إحسانات الحاكم يعز منهم من يشاء ويذل منهم من يشاء، رسالة كسر نفس للمصريين وتأكيد على الاستخفاف والاستهانة بهم، غير مبال ولا قلق من أي رد فعل غاضب ينال منه ومن رجاله، ولكن الأعجب هو رد فعل الشعب المصاب في حياته وكرامته ووجوده، رد الفعل المتجاهل لكل هذا الظلم والاستبداد والإهانات والقمع وكأنه مغيب أو فاقد إحساسه بالوجود، وفجأة تجده منفعلا منتفضا ثائرا سعيدا تنتابه أحاسيس النصر، لأن الشعب الأمريكي ثار على ترمب، وكأن الشعب الأمريكي ثار من أجل دفع الظلم عنه في مصر، وهو ما يعكس حالة اليأس والهوان التي أصابت المصريين وجعلت معظم انتصاراتهم وهما يعوضون به هزائم الواقع.

تجارب مصرية هزت العالم

وإمعانا في الاستخفاف والاستهزاء بالمصريين على مستوى العالم، وتأكيدا للرسالة الموجهة للعالم ملخصها أنه الحاكم المنفرد بأمره لدولة لا كلمة فيها إلا كلمته ولا إرادة إلا إرادته، حتى لو كانت خارج السياق والمنطق، وضد مصلحة شعبه، تجاهل الجنرال كل مظاهر الفشل في مواجهة الوباء والتي يراها الأعمى، بوضوح، وارتفاع عدد الضحايا من الشعب والهيئات الصحية والفشل في محاصرة المرض وانهيار العديد من الأسر بعد أن توقف عائلها عن العمل بسبب الوباء من دون أي تعويض، والنتائج السلبية الجانبية الكثيرة والتي هوت بالوطن إلى مستقبل مجهول غير واضح المعالم، وأعلن في تصريح أمام العالم أنه يريد أن ينقل تجرية مصر الناجحة في مواجهة الوباء للعالم!  وهو ما اعتبره البعض مزحة أو نكته، والبعض الآخر راه محاولة لإخفاء الحقيقة عن العالم، إلا أن الهدف من التصريح لم يكن هذا المعنى أو ذاك، فالجنرال ليس ابن نكته، كما أنه مدرك أن العالم يعلم حقيقة الموقف المتأزم في مصر من أزمة الوباء، إنما أراد الرجل أن يقول للعالم إن الشعب ما هو إلا مسخ ودمي يحركهم بلا منطق كما يشاء وإنه المتصرف الأول في أرض هذا الوطن يبيعها وقتما يشاء إلى من يشاء، باختصار هو يرفع سعره وسعر ما يتاجر به من أراضي الوطن، ودماء الشعب.

ولكن حتى لا نغضب فخامته أرسل للعالم خلاصة تجربتنا، نحن شعب ربما تختفي همومنا وآلامنا داخل ثوب الصبر الفضفاض، ولكننا أبدا لا ننسى أن لنا حقوقا مسلوبة تعاهدنا على استرجاعها، وكرامة مهدرة نسعى لاستردادها، وثأرا له ميعاد يراه الباغي بعيدا ويراه أصحاب الحق قريبا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه